لسبب ما، قفزت إلى ذهني صورة كبيرة ملونة، رأيتها في مجلة «بناء الصين»، نحو عام 1974. تظهر الصورة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في لباسه العسكري التقليدي، يخاطب حشداً هائلاً من الناس الذين ارتدوا زياً مماثلاً لزيه، باللون نفسه تماماً، واصطفوا في صفوف منتظمة، بحيث يستحيل أن تميز أحدهم عن الآخر.
تذكرت تلك الصورة وأنا أقرأ تغريدة تنسب للدالاي لاما، الزعيم الروحي للتبت، مقولة حكيمة، نصها أن «الدين موجود كي تسيطر على نفسك، لا على الآخرين».
لا أدري ما الذي ربط هذا القول بتلك الصورة، فأحيا ذكراها بعد عقود من النسيان. لكن الفكرة التي يعرضها الدالاي لاما، تثير هماً عميقاً، وتسلط الضوء على جوانب كثيرة من سلوكياتنا وعلاقاتنا بالآخرين. لتوضيح الفكرة، دعنا نبدأ من الصورة.
لا بد أن بعض القراء مُطَّلع على أدبيات «اليوتوبيا»، الكتابات التي تخيلت مدينة فاضلة، خالية من النزاعات والفقر والجريمة. تشكل الفكرة محور كتاب «الجمهورية» للفيلسوف اليوناني أفلاطون. كما أنها حلم أثير لبعض الناشطين والكتاب، رغم إدراكهم لاستحالتها؛ بل وعبثيتها.
لاحظت أن الأعمال السينمائية التي بُنيت على فكرة «اليوتوبيا»، استعملت «اللباس الموحد»، كرمز للانضباط العام والمساواة التامة. ولعل بعض القراء قد شاهد هذا التصوير في فيلم «أكويليبريوم = التعادل» مثلاً. أما في الواقع، فقد رأيناه في الصين خلال عهد ماو تسي تونغ (1945 – 1976) وفي كوريا الشمالية، في عهد كيم إيل سونغ (1948 – 1994).
نعلم أن اللباس الموحد لا يعكس غير المساواة الظاهرية؛ لكن التطلع إلى التماثل السلوكي وجبر الناس عليه، يعكس ميلاً عميقاً، غامضاً أحياناً، عند بعض البشر، فحواه أن المجتمع الأمثل هو ذلك الذي يكون فيه الناس نسخة واحدة مكررة، أو متماثلة في كل شيء.
هذا التصور المتطرف، مستحيل التطبيق في الحياة الواقعية. ولذا فإن أصحابه يصرفونه غالباً إلى التماثل الظاهري، الذي يرمز إليه اللباس الموحد أو المتماثل. ونلاحظ مثلاً أن الذين يركزون على اللباس ويتحدثون عنه كرمز للالتزام السلوكي أو القيمة الأخلاقية، يحاربون – في الوقت نفسه – التعددية الثقافية والقيمية.
هؤلاء يرون أن منظومة القيم واحدة مطلقة، وأنها مطابقة للقيم التي يتبعونها في حياتهم. بعبارة أخرى، هم يعتبرون ثقافتهم وتعبيراتهم وطريقتهم في الحياة، تلخيصاً كاملاً للقيم الأخلاقية، ويتمنون تحويل بقية الناس إلى نسخ مكررة عنهم.
تأخذنا هذه النقطة إلى مقولة الدالاي لاما. أي استخدام الدين كأداة للتحكم في حياة الآخرين. فهو يفترض – وهو محق تماماً – أن جوهر التدين هو التحكم في الميول والغرائز الشخصية، حتى يصبح فعل الإنسان وتفاعله مع غيره، تجسيداً للكمال الذاتي؛ لكن الأمر ينعكس إلى الضد حين يتحول المتدين إلى رقيب على الناس، همه الأكبر جبرهم بالقول أو بالفعل، على مشابهته. جوهر هذا السلوك هو إرادة التحكم، أي ممارسة نفوذ واقعي أو افتراضي على من يظنهم أدنى منه قيمة.
ماو تسي تونغ، وكيم إيل سونغ، لم يكونا متدينين حين فرضا على الناس أن يكونوا نسخاً مكررة عنهم. الدين في جوهره ليس أداة جبر؛ لكنه قد يستخدم في التحكم، مثلما تستخدم أي آيديولوجيا في تبريره. كلنا يود أن يدعو الناس إلى طريقه؛ لكن علينا أن نسأل أنفسنا دائماً: ألا يحتمل أن هذه الدعوة، في الباطن، مجرد محاولة لفرض النفوذ والتحكم في حياة الآخرين؟
المصدر: الشرق الأوسط