جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

متحف عربي لزمن ما قبل الربيع

آراء

في يوم من الأيام كان هناك بلد اسمه ألمانيا الديمقراطية، أو ما اتفق على تسميته ألمانيا الشرقية، قامت على الجزء الذي احتله السوفييت بعد الحرب العالمية الثانية، كان بلداً معاكساً في كل شيء، في دولة ألمانيا الاتحادية التي ورثت ألمانيا ما قبل الحرب والتي عرفت بألمانيا الغربية.

كان لألمانيا الشرقية نظامها السياسي الشيوعي المختلف، ومعه إعلام مختلف، ونظام تعليمي مختلف، ومنتجات مختلفة، كل شيء فيها غير ما هو عليه في الغربية، وبالتالي عندما توحدت الألمانيتان، كان من الطبيعي أن يفكر أحدهم في إقامة متحف يحتفظ للتاريخ والأجيال الألمانية التي لم تعش تلك الأيام حالكة السواد، بعضاً من مظاهر الحياة في تلك الدولة التي استمرت 41 عاماً.

زرت ذلك المتحف، وأدعو كل من يزور برلين أن يفعل ذلك، فهو تجربة مختلفة عن أي متحف آخر، بجواره تقع متاحف تقليدية رائعة، تضم أثاراً من أطراف الأرض، وأعمالاً فنية نادرة، ولكن لا شيء مثل متحف DDR، ذلك أنه يسجل مرحلة تاريخية استثنائية، قرر فيها «عاقل مجنون» أن يعيد وبقوة السلاح والقمع، تركيب المجتمع وعاداته وقيمه، ويصبها في قالب واحد اسمه «الشيوعية».

يسجل متحف ألمانيا الشرقية بكل بساطة كيف تعيش في بلد شيوعي؟ الشقة الصغيرة، المفروشات عديمة التصميم، الطعام المتكرر، الإعلام الموجه، والأخ الأكبر الذي يراقبك، ويحصي أنفساك، المعتقلات بالطبع، والمفارقة أن عليك أن تقول إن هذه هي الحياة الأفضل، رغم أن الجميع يعلم أنه لولا السور والقناصة، لما بقي أحد في تلك الجنة المزعومة، ولفروا جميعاً إلى جحيم الرأسمالية، حيث يستغل القوي الضعيف، كما تقول دعايات الحزب الشيوعي الحاكم.

فيلم يعرض هناك مما تبقى من دعايات الحزب الحاكم تلك الأيام، يصور أسرة ألمانية شرقية، وهي تزور شقتها الجديدة «أوه.. إنها كبيرة جداً ومنسقة بعناية»، لم يقولوا الله يطول بعمر الزعيم، ولكن ربما شيئاً مثل هذا، لكن لم تكن الشقة كبيرة ولا منسقة وإنما علبة كبريت، ولكن كان هذا أقصى رخاء يحصل عليه الإنسان الاشتراكي.

يسجل التاريخ أن ألمانيا الشرقية كانت الأغنى بين دول المجموعة الاشتراكية، ولكن رخاءها ما كان ليقارن بألمانيا الغربية التي احتوتها بعد ذلك، ودفعت مليارات عدة لدمجها باقتصادها.

بعد ربيع العرب، هل حان الوقت أن يؤسس أحدهم متحفاً يسجل زمن الطغيان في بلاد العرب؟ اقترح القاهرة مكاناً لهذا المتحف، ليحفظ ويذكر تاريخ العرب الحديث، الانقلابات، والطغيان والمعتقلات، التعذيب، تأميم الممتلكات، إفقار الشعوب، أجهزة التجسس، صورهم الهائلة، الساعات التي كانوا يوزعونها، وتحمل صورهم، الأفلام التي تستعرض بطولاتهم، الهزائم وصراعات العرب، ثم بذخ الحكام، قصورهم، حياتهم الشخصية الغارقة في الفساد والإسفاف.

أتخيل المتحف كنفق طويل طويل في نهايته نور الربيع العربي.

المصدر: مجلة روتانا