“مجلس دبي للمعرفة” يستعرض التطورات الجيوسياسية الراهنة في المنطقة والعالم

أخبار

نظّم المكتب الإعلامي لحكومة دبي الجلسة الثانية من “مجلس دبي للمعرفة”، بحضور عدد من مدراء الدوائر الحكومية وقيادات الأعمال الإماراتية في دبي، حيث هدف اللقاء إلى تقديم تحليل علمي دقيق لبعض المتغيرات الرئيسة التي يشهدها العالم حالياً وتعتبر من العوامل التي ستساهم في إعادة تشكيل صورته خلال المرحلة المقبلة، وذلك بغية دعم عملية اتخاذ القرار في دبي وصولاً إلى أفضل السيناريوهات الممكنة في التعاطي الإيجابي مع تلك المتغيرات بما تحمله من فرص وتحديات لضمان الحفاظ على المكتسبات المتحققة وإحراز مزيد من التقدم في مختلف مسارات التطوير وبما يواكب الرؤية الطموحة لمستقبل التنمية في الدولة.

وبهذه المناسبة أكدت سعادة منى غانم المرّي، المدير العام للمكتب الإعلامي لحكومة دبي أن “مجلس دبي للمعرفة” يركز على استعراض أهم التطورات العالمية والإقليمية الراهنة والتغيرات الجيوسياسية ذات التأثيرات الواضحة على العالم والمنطقة، خلال استضافة نخبة من الخبراء العالميين من أصحاب الفكر المبدع والرؤى الاستراتيجية لمناقشتهم في أفكارهم وتصوراتهم وتحليلاتهم لتلك التطورات وتأثيراتها المحتملة على مستقبل المنطقة والعالم، بما يدعم عملية اتخاذ القرار بأسلوب فعّال يواكب تلك التطورات ويؤكد الاستفادة مما قد تثمر عنه من فرص.

وأكدت سعادة المرّي أن المكتب الإعلامي لحكومة دبي يحرص على استضافة أفضل الخبرات العالمية وأكثرها دراية وأغزرها علماً للحديث في المجلس ضمن لقاءاته الدورية، حيث يمثل اللقاء المباشر مع تلك الخبرات ميزة كبيرة كونه يوفّر فرصة جيدة لمحاورة هؤلاء الخبراء في أفكارهم والاقتراب أكثر من تحليلاتهم للواقع الراهن المحيط، في محاولة لتكوين تصور موضوعي لما يمكن أن تأول إليه تلك التطورات من نتائج على المديين القريب والبعيد.

واستضاف مجلس دبي لمعرفة في ثاني انعقاد له الباحث والخبير الاستراتيجي العالمي، الدكتور باراغ خانا، الذي يُعدُّ من أهم الخبراء المتخصصين في العلاقات الدولية حيث قدم قراءة لمستقبل المنطقة والعالم في ضوء المتغيرات العالمية المحيطة عبر تحليل الأوضاع الراهنة والوقوف على أبعادها المختلفة وما يمكن أن تؤول إليه خلال السنوات الخمس المقبلة، بما تحمله من فرص وما يمكن أن تفرضه من تحديات بغية الوصول إلى أفضل فرضيات التعامل معها بأسلوب فعّال يؤكد فرص النجاح.

وخلال الجلسة تم تناول الدور المؤثر الذي تلعبه دبي في الاقتصاد العالمي منذ فترة كبيرة بوصفها عاملاً مهماً ساهم في نمو الاقتصاد الإسلامي، قدم للعالم نموذجاً فريداً للتنمية الاقتصادية قائم على تنويع مكونات المنظومة الاقتصادية دون الاعتماد على عنصر بعينه، وكيفية الاستفادة من الفرص الواعدة التي من الممكن أن تحملها المرحلة المقبلة لاسيما وأن دبي تقع في قلب منطقة جغرافية شاسعة تمثل مركز النمو الاقتصادي العالمي إذ تضم نحو 72 دولة يقطنها 2.7 مليار نسمة، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي لدولها مجتمعة قرابة 4.4 تريليون دولار.

النقل والطاقة والاتصالات

وفي بداية حديثه، أشار الدكتور باراغ خانا إلى أنه على الرغم من حالة الغموض التي تسيطر على أوضاع العالم حالياً، فإنه من المتاح دائماً من خلال البحث والتحليل الوصول إلى ثوابت يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها في عمليات التخطيط، منوهاً أن كتابه القادم، والذي سيصدر قريباً بعنوان “خارطة التواصل” يحوي فصلاً كاملاً عن دبي، ويسعى إلى تقديم مقاربة علمية مبنية على أرقام وحقائق موثوقة يمكن أن تستفيد منها المدن والدول عند رسم سياساتها الاقتصادية.

ودفع خانا بأن البنى الأساسية فيما سماه بـ “العالم المترابط” ستتوزع ضمن ثلاث فئات أساسية وهي: النقل، والطاقة، والاتصالات وعلى ذلك فإن كل ما أنتجه العالم من شبكات الربط بمختلف أنواعها سواء من طرق للمركبات أو القطارات، وكذلك الربط عبر أنابيب الغاز، والنفط، وكابلات الكهرباء، والإنترنت تندرج جميعها تحت هذه العناصر الثلاثة؛ موضحاً أن إجمالي أطوال البنى الأساسية في العالم تناهز 75 مليون كيلومتر ، في حين أن إجمالي أطوال الحدود السياسية بين الدول يبلغ 500 ألف كيلومتر فقط؛ وهو ما يعني أن رغبة البشر في الترابط والتواصل فاقت الفواصل السياسية بنسبة تصل إلى 150 إلى واحد، متوقعاً بأن تزيد هذه الفجوة في المستقبل وذلك لرغبة الشعوب في بناء مزيد من قنوات ودروب الارتباط والتواصل فيما بينها. 

حضارة الشبكات .

وأوضح خانا أن تلك البنى الأساسية بفئاتها الثلاث قادرة على عبور الحدود؛ لذا فإن هناك مجموعة كبيرة من شبكات الطرق وانابيب النفط الغاز التي تمر عبر عدة دول وهو ما لم يكن موجوداً قبل بضعة عقود مشيراً أن المرحلة الحالية تشهد ميلاد هيكل جديد للنظام العالمي وهو الأمر الذي يحدث كل 500 عام، فبعد العصور الوسطى بدأ العصر الحديث ومن ثم شارف على الانتهاء ليبدأ عصر يمكن أن نطلق عليها عصر “حضارة الشبكات” التي تعتمد بشكل جوهري على ما يمكن وصفه بـ “ثورة الترابط والتواصل”.

ونوّه الخبير العالمي أن بداية هذا العصر الجديد تمثل فرصة قيِّمة من الممكن أن تحمل مكاسب كبيرة لمن يستطيع فهم مكونات النظام الجديد والذي تلعب فيه سلاسل الإمداد الاقتصادي والبنى الأساسية دوراً محورياً لا غنى عنه بحيث تعتمد سلاسل الإمداد الاقتصادي على البني الأساسية لتلبية الطلب وبالتالي تعزيز أواصر الروابط بين المدن، وهو ما يشير أن هبوط أسعار النفط كان متوقعاً بسبب الزيادة الكبيرة في مصادر الطاقة ما جعل العرض يفوق الطلب في السوق العالمي، منوهاً بأن قانون “العرض والطلب” هو القانون الأهم الذي حكم العالم على مر التاريخ.

وشدد خانا على أن الهيكل الجديد للنظام العالمي يتسم بالمرونة والقدرة على الحركة ما يعني أنه لن يتأثر بالتغيرات والاضطرابات الجيوسياسية كما في السابق بل بشكل أقل حده نظراً لكثرة البدائل المتاحة عبر زيادة “ترابط” العالم (Connectivity) وضرب مثالا على ذلك بإقدام الحكومة الصينية على الاستثمار في بناء السفن العملاقة القادرة على شق طريقها عبر جليد المحيط المتجمد الشمالي، وهو الامر ذاته الذي يفسر هبوط أسعار النفط على الرغم من وجود مجموعة كبيرة من الاضطرابات السياسية المنتشرة عبرة شتى مناطق العالم، وقال خانا إن زيادة هذا الترابط العالمي سيؤدي بلا شك إلى وجود فائزين وخاسرين ويبقى ذلك مرهونا بموقعهم على خارطة سلاسل الإمداد الاقتصادي العالمية ومدى ومستوى إسهامهم فيها.

وأشار خانا إلى الدور الكبير والمهم الذي تلعبه الصين في الاقتصاد العالمي لكونها الشريك الاقتصادي الأكبر لنحو 124 دولة في العالم؛ أي ضعف بعض أكبر الشركاء الاقتصاديين العالميين ومن بينهم الولايات المتحدة التي تُعتبر الشريك الأكبر لـ 56 دولة فقط، وقال إن الحكومة الصينية قامت منذ مطلع التسعينات بضخ استثمارات ضخمة (تتجاوز 100 مليار دولار) في البنى الأساسية لجاراتها البالغ عددها 14 دولة وذلك بهدف تعظيم استفادتها من الموارد الطبيعية المتاحة في تلك الدول المجاورة لها دون الحاجة إلى الانزلاق إلى صراعات سياسية أو عسكرية.

ويؤكد ذلك الامر أن اكتشافات الطاقة والابتكارات الجديدة قد قضت على الحاجة إلى الحروب للسيطرة على الموارد ويجري الآن بذل الموارد المالية العالمية لبناء البنية التحتية الإنتاجية التي يمكن أن تقلل من هوّة عدم المساواة، وتقوم المناطق الساخنة والمضطربة مثل أفريقيا والشرق الأوسط بتحطيم الحواجز التي بناها الاستعمار من خلال إنشاء خطوط وممرات النقل وشبكات الكهرباء الطموحة الجديدة. 

المدن العملاقة

وحول أبرز السمات التي ستميز مستقبل العالم، قال الخبير العالمي باراغ خانا أن “المدن العملاقة” ستواصل هيمنتها على الاقتصاد العالمي، لافتاً إلى وجود نحو 35 مدينة عالمية “عملاقة”، وحوالي 50 منطقة اقتصادية كبرى مرتبطة بها، تمثل جميعها وحدات إنتاجية متكاملة وقادرة على التموضع بالشكل الصحيح في قلب النظام الجديد، متوقعاً أن تبقي تلك المدن على هيمنتها على اقتصاد العالم خلال العقدين القادمين مع مواصلة نموها الديموغرافي بذات الوتيرة، باستثناء مدينة واحدة وهي طوكيو وذلك لتراجع أعداد السكان فيها.

ونوّه د. خانا أن المدن العملاقة يجب عليها أن تسعى بكل السبل إلى توفير مقومات الترابط الصحيحة مشيراً أن الترابط الامثل ينبغي أن يكون مع شركاء تجارين متنوعين لتجنب التحديات الممكنة حيث أن فشل بعض الدول خلال الفترة الماضية في تحقيق هذه السياسة جعلها تفقد جزءاً كبيراً من صادراتها وضرب مثال بما حدث مع بعض دول الغرب الافريقي التي تراجعت صادرتها النفطية للولايات المتحدة، على عكس ألمانيا التي استطاعت توسيع قاعدة شركاءها التجاريين عالمياً بعد أن كانت صادراتها إلى دول الجوار فقط تمثل نحو 60% من إجمالي صادراتها إلى العالم.

وأشار الخبير الاستراتيجي إلى أهمية دور دبي في المشهد الاقتصادي العالمي بوصفها المدينة الأحدث على قائمة المدن العالمية جنباً إلى جنب مع نيويورك ولندن وطوكيو وهونغ كونغ وسنغافورة، بينما وصفها خانا بأنها كانت دائماً في قلب العالم ملتقىً للحضارات.

وحذّر خانا أن المدن العالمية ستواجه مجموعة من التحديات جراء زيادة التواصل والترابط العالمي، ما يتيح مزيدا من الخيارات أمام الاستثمار الذي اعتاد سابقا أن يلزم مكانه لفترات طويلة، ولكن الأمر تبدل مع تعدد الخيارات والبدائل، حيث أصبح الاستثمار أكثر حرصا على تتبع المواقع التي تقدم له المزيد من التسهيلات والحوافز والمناطق التي تتوافر فيها عوامل الجذب مثل العمالة الرخيصة والبنية الأساسية المتطورة والأطر التنظيمية المرنة، ما جعل حركة الاستثمار أسرع عن ذي قبل، وبالتالي فإنه من الأهمية بمكان للمدن العالمية أن تعتمد سياسة التنويع الاقتصادي وتعدد الشركاء الاقتصاديين وزيادة حجم التسهيلات والحوافز الممنوحة للمستثمرين لضمان استمرار أعمالهم فيها.

قاطرات الاقتصاد العالمي

وأكد الدكتور باراغ خانا أن “المناطق الاقتصادية الخاصة” تعد من أهم قاطرات الاقتصاد العالمي حيث يوجد منها حالياً نحو 4000 منطقة موزعة على 135 دولة؛ ويبلغ إجمالي صادرات تلك المناطق 200 مليار دولار، مشيرا إلى امتلاك دولة الإمارات العربية المتحدة النصيب الأكبر من تلك المناطق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما منح الدولة مصداقية عالية لدى المستثمرين، منوهاً بأهمية تنويع تلك المناطق وتطويرها وفقا لتنوع القطاعات التنموية، وربطها بسلاسل الإمداد والأسواق العالمية المختلفة.

باراغ خانا

يُعدُّ باراغ خانا من أبرز الخبراء العالميين المتخصصين في مجال الاستشارات الجيوسياسية، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من كلية لندن للاقتصاد، ودرجة الماجستير في الدراسات الأمنية من جامعة جورج تاون التي تخرج فيها ضمن تخصص العلاقات الدولية. خانا هو الشريك المؤسس والمدير المشارك لمعهد “هايبريد رياليتي” وهو أيضاً باحث أول وزميل في مركز آسيا والعولمة التابع لكلية “لي كوان يو” للسياسات العامة، وتركز أبحاثه على الأوضاع الجيوسياسية في منطقة يورآسيا، والبنية التحتية في قطاع الطاقة والنقل، والدور المتنامي للصين عالمياً وعلاقاتها مع روسيا والهند، بالإضافة إلى تركيزه على ديناميكية منطقة المحيط الهندي. نُشرت له العديد من المقالات الهامة في صحف ومجلات عالمية مرموقة مثل “نيوزويك” و”فايننشال تايمز” و”نيويورك تايمز” و”واشنطون بوست” و”فوربس”، وهو أيضاً متعاون عالمي، مع شبكة “سي إن إن” الإخبارية. صدر لباراغ خانا كتاب مهم في العام 2008 بعنوان “العالم الثاني: كيف تُعيد القوى الناشئة تعريف التنافسية العالمية في القرن الحادي والعشرين” وتصدّر قائمة أفضل المبيعات آنذاك، وكتاب “كيف تدير العالم: الطريق نحو النهضة القادمة!” في العام 2011، في حين من المنتظر أن يصدر له قريباً كتاب جديد بعنوان “خارطة التواصل” ويقدم من خلاله إعادة تصور كلي للكيفية التي ينظم بها البشر أنفسهم على مستوى العالم، مع الانتقال من مفهوم التنظيم على أساس الدول والحدود، إلى التنظيم على أساس البنى التحتية وسلاسل الإمداد التي ستكون بمثابة العوامل الرئيسة في تشكيل المجتمع العالمي في المستقبل.

المصدر: صحيفة البيان