حذر الدكتور محمد العريان، الخبير الاقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز، في كلمة مسجلة أذيعت بالمؤتمر الاقتصادي «مصر – 2022»، الذي بدأ أعماله، أمس الأحد، بالعاصمة الإدارية الجديدة، من أن العالم يعاصر اقتصاداً تكتنفه حالة من عدم اليقين غير المعتاد، وكلما زاد عدم الاستقرار في الدول المتقدمة تفاقمت هشاشة الاقتصاد العالمي، ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة للدول الأخرى.
وقال العريان، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاقتصادي، الذي حضره الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكبار المسؤولين ونخبة من الخبراء، أن المؤتمر الاقتصادي، ينصب تركيزه على النظرة المستقبلية لمصر، والفرص والمخاطر وإمكانية إطلاق العنان لإمكانات مصر الكبيرة.
وشبّه العريان في كلمته، مصر بمنزل يوجد في حي يعبر عن البيئة المحيطة به، لافتاً إلى أن الأحياء ذات أهمية وتأثير في المنزل، فالحي الجيد يعزز من قيمة المنزل، في الوقت الذي تفرض التحديات التي يواجهها الحي تحديات على المنزل.
الواقع المؤلم
وشدد على أن واقعنا المؤلم قد فرض علينا العيش في حي محفوف بالتحديات، ألا وهو الاقتصاد العالمي والنظام المالي العالمي، وقد ولدت تلك التحديات من رحم الدول المتقدمة واقتصادات مجموعة السبع، على وجه الخصوص، مؤكداً أنه كلما زاد عدم الاستقرار في الدول المتقدمة، تفاقمت هشاشة الاقتصاد العالمي؛ ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة للدول الأخرى.
وسلط العريان الضوء على الوضع المتقلب الذي نعيش فيه، منوهاً بأن هذا المثال يتعلق بالاقتصادات المتقدمة، خاصة باقتصاد مجموعة السبع، أي نخبة الاقتصادات المتقدمة، متسائلاً: كم مرة حدث في اقتصاد مجموعة السبع ما يلي: انهيار فوضوي في العملة، وزيادة غير منضبطة في العائدات، وتوبيخ علني من صندوق النقد الدولي، وتحذيرات وكالات التصنيف، وتدخلات طارئة من البنوك المركزية، وسياسات حكومية متعددة معاكسة انتهت باستقالة رؤساء وزراء؟
وأكد العريان أن هذه الأمور الستة حدثت بالفعل في اقتصاد مجموعة السبع خلال الأسابيع الخمسة الماضية، وهي توضح عدم الاستقرار الكامن وغير المتصور الذي نعاصره والذي تأسس في الدول المتقدمة، وتعد المملكة المتحدة مثالاً واضحاً جداً، فكان سبب عدم الاستقرار فيها هو أخطاء في السياسات المالية، مثل محاولة خفض الضرائب من دون وجود تدابير تعويضية للإيرادات.
أسباب عدم الاستقرار
وأوضح أن هناك أسباباً متعددة كذلك لعدم الاستقرار في جميع الاقتصادات المتقدمة؛ ففي الولايات المتحدة يحاول البنك الفيدرالي الأمريكي والذي يُعد أقوى البنوك المركزية حول العالم، خفض جماح التضخم، إلا أنه وقع في خطأ تصنيف التضخم بوصفه تضخماً مؤقتاً، وبالتالي فشل في تبنّي التدابير اللازمة، ويعمل حالياً على رفع سعر الفائدة بمعدلات تعد الأسرع في التاريخ.
وأشار العريان إلى أن البعض يعتقد أن ذلك سيتسبب بوصول الاقتصاد الأمريكي إلى الكساد، كما يساور القلق بعضنا أيضاً، حيال تقويض ذلك الأمر لأداء الأسواق المالية حول العالم، مضيفاً أن بنك اليابان يعاني كذلك مشكلات في عالم تسوده أسعار فائدة مرتفعة، وينطبق الأمر ذاته على البنك المركزي الأوروبي.
وأكد أن بيت القصيد هو أننا نعاصر اقتصاداً عالميا ًتكتنفه حالة من عدم اليقين غير المعتاد، ولا يعد ذلك غموضاً فحسب، بل إنه عدم يقين غير معتاد، وأثار سؤالاً حول السبب وراء تفاقم عدم استقرار الحي المحيط بالمنزل حتى أصبح هشاً؟
وقال العريان إنه من المؤكد أن لذلك العديد من الأسباب، مستعرضاً ثلاثة من أبرز الأسباب في رأيه، مشيراً إلى أن السبب الأول يتعلق بالقدرة على النمو، حيث فقدت العديد من الدول قدرتها على النمو بسبب الخصائص المتغيرة للاقتصاد العالمي، فقد انتقلنا من اقتصاد عالمي يفتقر إلى معدلات كافية من الطلب، إلى اقتصاد عالمي يفتقر إلى معدلات كافية من العرض، حيث يشهد العالم اضطرابات في معدلات العرض، لذا، يواجه النمو الاقتصادي تأثيرات معاكسة جديدة.
العولمة تغيرت
وأضاف أن العولمة تغيرت هي الأخرى بسبب التطورات الجيوسياسية ورغبة الشركات في تفضيل المرونة على الكفاءة، ما أدى إلى نوع جديد من العولمة، ويفسر ذلك التباطؤ الاقتصادي المتزامن للمناطق الثلاث الرئيسة في العالم: الصين وأوروبا والولايات المتحدة، وعليه تتباطأ محركات النمو الثلاثة للاقتصاد العالمي في الوقت ذاته، وقد دفع ذلك صندوق النقد الدولي لإعادة النظر في توقعاته أوائل الشهر الجاري، وحذرنا من أن «الأسوأ لم يأتِ بعد، لذا، فإن عجز النمو في الاقتصاد العالمي هو القضية الأولى التي نواجهها الآن».
وقال د. محمد العريان إن القضية الثانية هي التضخم المرتفع والمستمر، وقد تحول ذلك التضخم من كونه نتيجة لصدمة الطاقة الناتجة عن الأزمة الروسية-الأوكرانية، وصدمة الغذاء الناتجة أيضاً عن تلك الأزمة، إلى شيء أوسع نطاقاً، حيث يقيس الاقتصاديون محركات التضخم بما يسمى التضخم الأساسي، ويستبعد التضخم الأساسي التقلبات التي تشهدها أسعار بعض السلع، صعوداً وهبوطاً، فبالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا واليابان، التضخم الأساسي لا يزال يرتفع، وبالتالي لدينا مشكلة تضخم، كما تجبر البنوك المركزية على خيارات صعبة للغاية، متسائلاً عما إذا كان علينا أن نواجه التضخم بصرامة ونخاطر بسحق الاقتصاد والتسبب أيضاً في عدم الاستقرار المالي، أم تتخذ إجراءات ناعمة تجاه التضخم ونخاطر بإمكانية حدوث ركود تضخمي؟
وأكد أنه في ظل ذلك المزيج من النمو المنخفض والتضخم المرتفع، اختارت البنوك المركزية والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بالأخص، اتخاذ موقف صارم ضد التضخم، ما أسفر عن ارتفاع حاد في قيمة الدولار، بنسبة تزيد على 20٪ مقابل العملات العالمية الأخرى هذا العام، وهذا بالطبع يعني المزيد من حدة التضخم المستورد للبلدان الأخرى، وهذا يعني المزيد من الضغط على عملاتها، ومزيد من الضغط على احتياطاتها.
أداء الأسواق المالية
وأضاف د. العريان أن السبب الثالث يتعلق بأداء الأسواق المالية، ودعونا نفكر في الأمر بالطريقة التالية، لقد تكيف النظام مع بيئته، وتميزت تلك البيئة لأكثر من عقد بمعدلات فائدة منخفضة للغاية، صفر في الولايات المتحدة، وسلبية في أوروبا، وضخ هائل للسيولة من قبل البنوك المركزية.
وأوضح أنه في عالم كهذا، تحمّل النظام المالي الكثير من الديون، واكتسب المزيد من المديونيات لأنه افترض أن هذا النظام سيستمر لفترة طويلة، ومع ذلك، فإن التضخم قد غير كل هذا ونتيجة لذلك يتعين على النظام المالي نفسه التكيف مع هذا الواقع المتغير، وكما قلت سابقاً، إنها حقيقة تتغير بسرعة كبيرة وتتمثل في رفع سعر الفائدة والذي يعد الأعلى من قبل الاحتياطي الفيدرالي منذ عقود عدة، مع ذلك، تأتي ضغوط السيولة في كبرى الأسواق المالية في العالم، وتأتي ردود فعل السوق الهائلة على أي تقلب في السياسة، كما رأينا مع المملكة المتحدة، ومع ذلك تأتي مخاطر وقوع أزمة مالية.
وأكد د. محمد العريان أن هذه بيئة صعبة للغاية بالنسبة للأغلبية العظمى من دول العالم، فالحي المحيط يتحدى المنزل، إنها الواقع الذي يتطلب عناية كبيرة، ومرونة كبيرة واستجابة نشطة في التعامل مع تلك الأمور التي لا يمكن تصورها، فهذه السمات الثلاث، وهي العناية والمرونة والاستجابة النشطة، يجب وضعها في الاعتبار أثناء انتقالنا من الحي المحيط إلى المنزل، حيث الاقتصاد المصري وآثاره.
ولفت إلى أنه بدأ كلمته بصورة منزل وحي محيط به، ولكنه سيختتم بصورة أخرى، وهي صورة لرحلة وعرة للغاية وصولاً إلى وجهة أفضل، حيث تكمُن وعُورة هذه الرحلة في الصدمات التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي، والتمويل العالمي، لذا فهي رحلة وعرة بطبيعتها لكنها إلى وجهة أفضل، وستتميز تلك الوجهة بنمو أكثر شمولاً واستدامة من حيث المُناخ والبيئة، كما ستتميز بنظام مالي أكثر استقراراً بالفعل، وليس التمويل المصطنع للبنوك المركزية في الدول المتقدمة، بل الاستقرار المالي الحقيقي، ونأمل أن يتسم العالم بتنسيق أفضل للسياسات العالمية لمعالجة المشكلات المشتركة.
المصدر: الخليج