المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
الخليج تحول مزيجاً من الجنسيات، والأعراق، والأديان، والثقافات. مركز للأعمال وجاذب للاستثمارات ورؤوس الأموال، ومتصل ومندمج مع الغرب والشرق، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. الناجحون من كل مكان والباحثون عن مستقبل لأطفالهم يذهبون إليه. لم يعد الخليج محصوراً بمواطنيه، لكنه مكان مفتوح ووطن للجميع. في شوارعه وأسواقه ومطاراته خليط من كل الوجوه. يشعر الجميع بالانتماء له وأنه جزء منه ومسؤول عنه. وهذه ميزة كبيرة؛ لأن هذا المزيج الإنساني المتعدد المتناغم هو سمة الدول المتحضرة في عالمنا المعاصر.
ومع هذا، فإن أكثر بقعة يتم التحريض عليها هي منطقة الخليج؟ الدول الخليجية تتبنى سياسات واقعية وليست عدوانية. دفاعية وليست هجومية. لماذا إذن الهجوم عليها؟ هل الأمر محير؟ بالطبع لا. الهدف هو إضعافها وتقويضها. والسبب بسيط وواضح وعملي يجب أن نفهمه بوضوح وبعقل بارد وبلا مشاعر أو تفكير مؤامراتي. مشروعها السياسي والاقتصادي والثقافي مختلف تماماً ويقف على الضد من مشروع الميليشيات والجماعات المتطرفة. نجاح المشروع الخليجي هو هزيمة للمشروع الآخر والعكس صحيح. ولهذا نرى أن حجم التحريض مكثف ومركّز على مشروع الدول الخليجية؛ لأن إضعافها وتقويضها يعني فتح الباب على مصراعيه للمشروع الآخر لكي يسود ويسيطر في عموم المنطقة.
ومع كل الفوضى الحاصلة وكل تفاصيلها المهمة يجب ألا ننسى الصورة الكبيرة، وهي أن هناك مشروعين في المنطقة. مشروع الازدهار والسلام، ومشروع الفقر والحروب. مشروع الدولة ومشروع الميليشيات. مشروع الأعلام الوطنية ومشروع الرايات الصفراء والسوداء. هذه هي النقطة الأساسية والبقية تفاصيل.
وفي مقال «ثوريون في الخليج» حذّرتُ من الخطابات الثورية في داخل الخليج التي تخدم في نهاية المطاف الخطاب المعادي القادم من الخارج. الترويج للدعايات المضللة التي يرددها البعض في الداخل تنسجم مع كل الأفكار المدمرة الثورية التي تصور الخليج بكل الأوصاف (المطبع… المتواطئ مع الغرب… الذي يشتري أسلحته… الذي يبيع خيراته)، التي تهدف بشكل أساسي لإضعاف شرعيته خدمة للمشروع الآخر.
الخطاب السياسي لدول الخليج قائم على مشروع الدولة. الدولة تمتلك السيادة الكاملة على أراضيها وتحتكر استخدام القوة لفرض الأمن وتمتلك وحدها قرار السلم والحرب. مشروع الدولة الأمة هو المشروع الذي ينهض عليه النظام الدولي في عالمنا ولا يمكن لوطن أن يستمر بوجود أكثر من دولة. ومشروع الميليشيات معارض تماماً لفكرة الدولة ولكل مبادئها الأساسية. بوجود الميليشيات تنتفي شرعية الدولة التي تصبح ضعيفة وهشة ومسلوبة الإرادة. وتراجع قوة الدولة ينعش كل الهويات الفرعية الدينية والطائفية والعشائرية، وهذه خلطة مسمومة لتقسيم أي بلد. في مشروع الخليج الدولة هي المرجع الوحيد والهوية الوطنية هي الهوية الجامعة. في مشروع الميليشيات تغيب الدولة ويحل مكانها قادة الميليشيات وزعماء الطوائف ومرشدو الجماعات. وقبل سنوات بعيدة زرت عاصمة عربية جميلة، لكن لفت انتباهي ضعف سيطرة الدولة أمام مسيرات الميليشيات التي تتباهى في الشوارع بسلاحها ورجال الجيش يتفرجون عليها. بعد مدة قصيرة سيطرت هذه الميليشيات على مفاصل الدولة وقرارها وأدخلتها في حروب مدمرة. كانت مسألة وقت وبعدها غرق ذلك البلد الجميل في وحل الميليشيات التي تعلن بصراحة أن ولاءها الكامل لحكومة وزعيم بلد آخر.
اقتصادياً، الفرق بين مشروع دول الخليج ومشروع الميليشيات واضح. الدول الخليجية تتنافس عالمياً على استقطاب الكفاءات والاستثمارات ورؤوس الأموال. في الوقت الذي يقوم مشروع الميليشيات بالعكس تماماً وهو طرد الكفاءات والاستثمارات ورؤوس الأموال. واستقطب بالمقابل قادة الميليشيات للتدريب وأموال المخدرات لتمويل حروبها وكوادرها. مشروع الخليج ينجح بمعركة الثراء والتنمية ومشروع الميليشيات ينجح في معركة الفقر المغلفة بدعاية الكرامة. مشروع الخليج يبني ناطحات السحاب ومشروع الميليشيات يحفر السراديب. مشروع الخليج ينافس لنقل أكبر عدد من الركاب على خطوط طيرانه، ومشروع الميليشيات ينافس على نقل أكبر عدد من الصواريخ على خطوط طيرانه. وباختصار، اقتصاد المشروع الخليجي هو من أجل الحياة والمستقبل واقتصاد المشروع الميليشياوي من أجل الموت والماضي.
ثقافياً، دول الخليج تتبنى خطاب التسامح والتعدد والانفتاح. وهذا ما يجعلها هدفاً رئيسياً للميليشيات والجماعات المتطرفة وقياداتها التي لا يعجبها هذا النهج الإنساني العصري الذي لا يفرق بين البشر. خلطتهم المسمومة قائمة على التقسيم الديني والمذهبي. والخطاب المذهبي ومواجهة الغرب والاستعمار مهم من أجل إضفاء الشرعية عليها ولشحن مشروعها الآيديولوجي الميليشياوي بشكل مستمر وعسكرة المجتمع وإجبار الأطفال المساكين على ترديد كل صباح هتاف «اللعنة على أميركا»! المشروع الخليجي يهدف إلى التعليم الحديث والتفكير الديني المستنير وإجادة أحدث اللغات وتعزيز المواطنة وليس في حاجة إلى التجييش وشد العصب الطائفي من أجل الشرعية أو لتحقيق مشاريع خارجية توسعية. في الوقت الذي يقوم المشروع الثقافي للميليشيات على العكس. الأفراد هم كوادر والتعليم هو تجنيد والاعتدال خيانة والمواطنة عمالة.
ختاماً، مشروع الخليج هو مشروع جميع الباحثين عن أن تسود قيم الازدهار الاقتصادي والسلام السياسي والاعتدال الثقافي. مشروع السعادة والحياة وليس البؤس والموت، وأن نكون جزءاً من العالم الحديث ونندمج فيه أكثر ونصبح جزءاً أصيلاً منه. هو المشروع الوحيد القابل للحياة والنموذج الذي يمكن أن يتوسع ليشمل مناطق خارج الخليج تبحث عن مستقبل لأطفالها، لن تجده بالتأكيد في مشروع الميليشيات الملطخ بالدم والأشلاء والذي يقامر بأرواحهم ويدفنهم أحياء بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة.
المصدر: الشرق الأوسط