حوار الأديان أو الحوار بين أتباع الأديان ليس من الشواغل البارزة للناس في هذه الأيام. لكن الفكرة بذاتها كامنة في أعماق الغالبية العظمى من جمهور المؤمنين. نعلم طبعاً أن البعض يستنكر الفكرة ويرفضها كلياً، لأنه يرى في محاورة الآخرين إقراراً بشرعية دينهم، وهو ما لا يريده.
لكن هذا خطأ في التقدير. بديهي أن الحوار ينطوي بالضرورة على إقرار بحق الآخر المختلف في الاعتقاد. بديهي أيضاً أن الاعتراف بحقوق الناس، لا يساوي الإقرار بصحة أفكارهم أو أفعالهم.
من يرفض الحوار مع أتباع الأديان الأخرى بناء على المبرر المذكور، يرفض – للسبب ذاته – الحوار مع التيارات والمذاهب التي تشاركه المعتقد نفسه، على الأقل في أركانه الكبرى. ونسمع جميعاً بالجدالات المزمنة بين المذاهب الإسلامية، والجدالات المماثلة بين الكنائس المسيحية. إن كل الأديان الكبرى منقسمة في داخلها، تبعاً لاختلاف الاجتهادات وتباين التكوينات الاجتماعية. وهذا ينطبق أيضاً على المذاهب. فمن النادر أن تجد مذهباً يخلو من انقسامات.
قبل سنوات قليلة، شهد العالم الإسلامي دعوات للتقارب بين المذاهب. وعارض فريق منهم هذا التوجه، قائلاً إن الممكن الوحيد هو التعايش. كنت قد ناقشت هذه المسألة مع المرحوم هاني فحص، الذي تحل ذكرى رحيله هذه الأيام. فأخبرني أنه لا يتحدث عن التقارب (بالمعنى النظري المتداول) لأنه بلا موضوع. ولا يتحدث عن التعايش، لأنه ينطوي على رسالة سلبية، فحواها التسالم مع المتاركة. بدلاً من ذلك، يقترح فحص مبدأ العيش المشترك، الذي يعني الإقرار بوجود مساحة للتعاون في أمور الدنيا. حين تعيش مع بقية خلق الله في بلد واحد أو عالم واحد، فسوف ينشأ بالضرورة مجال مشترك، يمثل مصلحة لكل الأطراف. إن التعاون على إنجاز هذه المصالح، هو موضوع العيش المشترك. ولا أظن عاقلاً ينكر هذه الحقيقة.
أستطيع القول إن كل إنسان على هذه الأرض، قد أقام في يوم ما مصالح مشتركة، مع أشخاص من أديان أو مذاهب مختلفة عن دينه أو مذهبه. الناس لا يسألون عن دين قائد الطائرة التي تحملهم في الأسفار، ولا يسألون عن مذهب الطبيب الذي يعالج أطفالهم، ولا عن البائع في السوبر ماركت الذي يتبضعون منه. كما لا يسألون بطبيعة الحال عن دين أو مذهب صانع الأشياء التي يستهلكونها أو يستعملونها في أعمالهم ومنازلهم.
ثمة في أعماق النفس الإنسانية يقين مستقر، فحواه أن الحياة لا تسير من دون القبول بهذا المفهوم. ولهذا فإن أشد المتعصبين لا يتوانى عن التعامل مع مخالفيه في مثل تلك الأمور.
الحقيقة أن كل الناس يطبقون مبدأ الشراكة في المصالح الدنيوية. لكنهم في الوقت ذاته يتغافلون عن المحتوى الديني للعلاقة التي تقوم في إطاره. لهذا تجد العلاقات بين الناس اعتيادية، قبل أن تشير إلى أي دين أو مذهب. فإذا ذكر الدين أو المذهب، بدأ التعقيد وانفض الجمع، بل قد تحولوا من التعاون إلى الخصام.
لديّ تفسير لهذا التحول الغريب. ربما أعرضه في وقت آخر. لكني أضع أمام القارئ سؤالاً بسيطاً: لو ارتدى كل منا حجاب الغفلة وفق تعريف جون راولز، أي تناسى مخاوفه وانتماءه الخاص، لدقيقة واحدة فقط، وسأل نفسه: أيهما أقرب إلى مراد الخالق سبحانه… تعاون خلقه وتصافيهم أم تفارقهم وتنازعهم على أمور الدنيا؟ وأيهما أليق برسالة الدين: المحبة والتراضي بين عباد الله كافة أم الكراهية والخصام؟
المصدر: الشرق الأوسط