كاتب إماراتي
مع انهيار المعسكر الشرقي قبل أكثر من عقدين من الزمن ساد النظام الرأسمالي كافة بلدان العالم، ما عدا القليل من الدول، ككوبا وكوريا الشمالية التي لا زالت تكابر رغم معاناة شعوبها بسبب الحصار وسوء الإدارة الاقتصادية.
بدوره وضمن تطوره الطبيعي قدم النظام الرأسمالي نماذج متعددة تفاوتت فيما بينها في كيفية إدارة الثروات وتوزيعها، مما انعكس على التركيبة الاجتماعية لهذه الأنظمة والتي أبدى البعض منها مرونة فائقة في التعامل مع القضايا المتعددة التي واجهها، في حين سادت التوترات نماذج أخرى نتيجة تغير الهيكلية الاقتصادية، والتي أضحت أكثر اعتماداً على رأس المال غير المنتج.
وعمق انهيار المعسكر الشرقي من الفرز في النظام الرأسمالي، مما زاد من التفاوت بين دوله لتسير الأمور باتجاه إنهاء عالم القطب الواحد الذي ساد العقدين الماضيين ليتشكل عالم رأسمالي جديد متعدد الأقطاب لأول مرة في الطور الحالي من تطور هذا النظام.
وتشكل الرأسمالية الأنجلو – ساكسونية النموذج الأول والذي يعتمد بصورة أساسية على دوران رأس المال المالي والتلاعب بالمشتقات المالية وتعظيم الثروات عن طريق المضاربات، والتي كانت سبباً رئيسياً في الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم في السنوات الخمس الماضية.
وتقف الولايات المتحدة وبريطانيا على رأس هذا النموذج، حيث شهد اقتصاديهما تحولات كبيرة تراجعت فيها حصة الصناعات لصالح القطاعات الخدمية، وبالأخص الخدمات المالية والمصرفية، والتي يمر من خلالها معظم التعاملات المالية والمصرفية العابرة للقارات، بما فيها مبيعات النفط الهائلة ومبيعات السلع في الأسواق الدولية.
ومن ميزات هذا النموذج التفاوت الصارخ بين المستويات المعيشية للفئات الاجتماعية وتكرر الأزمات وتضارب المصالح والنزعة العسكرية والتأثير القوي لليمين المتطرف في الحياة الاجتماعية والسياسية.
أما النموذج الثاني، فإنه يتمحور حول الرأسمالية الأوروبية الغربية المتمثلة في ألمانيا وفرنسا بصورة أساسية، والذي يبدو أقل مغامرة من النموذج الأنجلو- ساكسوني ويسعى إلى المحافظة على أهم الأسس التي قام عليها النظام الرأسمالي وإيجاد النسب الصحيحة بين القطاعات الإنتاجية والخدمية وضعف النزعة العسكرية ومحاولة التوفيق بين مصالح كافة فئات المجتمع من خلال محاولة إشراك ممثلي هذه الفئات في إدارة الاقتصاد.
النموذج الثالث يتشكل من الرأسمالية الممزوجة ببعض سمات النظام الشرقي المنهار، والتي تركز على تنمية القطاعات الإنتاجية والاندماج في السوق العالمية، مع محاولة تقليل التفاوتات الاجتماعية للتخفيف من حدة التناقضات في محاولة للتأقلم بين مخلفات النظام السابق والحاضر الرأسمالي، وبالتالي تفادي التصادم بين فئات المجتمع، بما فيهم الرأسماليون الجدد، الذين بزغوا مع عملية التغيير، إذ تبدو الصين وروسيا وفيتنام المثال الأبرز للرأسمالية الجديدة أو المتجددة.
وأخيراً هناك النظام الرأسمالي الأكثر توازناً وتجانساً بين مكوناته، وبالتالي الأكثر استقراراً وتفهماً لاحتياجات مختلف فئاته الاجتماعية وتمثله بصورة أساسية البلدان الاسكندنافية، كالسويد والنرويج، حيث التوزيع الأكثر عدالة للثروة والضمان الصحي والتأمينات التي تقدم لمنخفضي الدخل وكبار السن والخدمات التعليمية والإسكانية الراقية والمزج بين تنمية مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية وتواضع الإنفاق العسكري والعمل باتجاه تنمية دولة الرعاية التي تكفل حياة كريمة لكافة فئات المجتمع.
بالتأكيد وجود هذا التفاوت لا يعني غياب بعض السمات المشتركة، كالأزمات الدورية والبطالة والتفاوتات الاجتماعية والمعيشية، التي ربما تقل حدتها بين نموذج وآخر، علماً بأن هناك صراعاً بين هذه النماذج بدأت صوره تتبلور في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب تضارب المصالح الخاصة بالثروات الطبيعية ومصادر الطاقة وتقاسم الأسواق الدولية وجذب الاستثمارات، خصوصاً أن الجزء الأكبر من الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة يقع في البلدان النامية، والتي تحاول بدورها رسم طريقها المناسب، والذي ربما يجمع الجوانب الإيجابية من كل نموذج، حيث يبدو ذلك أكثر وضوحاً في بعض البلدان الناشئة سريعة النمو، ككوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا.
المصدر: الإتحاد