كاتب كويتي
وُلِدَت بعين واحدة مليئة بالندبات الغائرة، فكانت شبه ضريرة لمدة نصف قرن من عمرها، ولكي تتمكن من الرؤية طوال تلك السنين كان عليها أن تستخدم عينها اليسرى فتحرِفَها إلى أقصى اليسار حيث فتحة صغيرة غائرة في جفنها يمكن للضوء أن يمر عبرها، إلا أنها وعلى الرغم من كل هذا الألم رفضت أن تكون محل شفقة الآخرين وأن ينظروا إليها على أنها معاقة أو أدنى من غيرها، ولذلك كانت تصر على المشاركة في كل الأنشطة الحياتية، وكانت تنجح في عمل كل شيء في الغالب.
عندما كانت طفلة كانت تصر على أن تلعب “الحجلة” مع الأطفال، ولأنها لم تكن لتستطيع رؤية العلامات على الأرض، فقد كانت تذهب إلى ساحة اللعب بعد عودة الأطفال إلى منازلهم فتلتصق بأرضية الملعب وتزحف على امتداده لتتمكن من رؤية العلامات التي وضعوها أثناء لعبهم حتى حفظتها جميعاً، وسرعان ما تمكنت من مشاركتهم لتصبح خبيرة في اللعبة تتفوق عليهم في بعض المرات.
كانت تقوم بقراءة الكتب ودراستها في المنزل، فتلصق الصفحات بوجهها إلى درجة أن رموش عينها الوحيدة كانت تحتك بسطح الورقة حتى تتمكن من رؤية الحروف، وبالرغم من معارضة المعلمين واعتقادهم أن إعاقتها أكبر من إمكانية نجاحها في مراحل التعليم النظامي، فإنها تمكنت من إكمال جميع مراحل دراستها فدخلت الجامعة وحصلت على البكالوريوس والماجستير، وتدرجت من ثم وصولا إلى الالتحاق بسلك التدريس حيث صارت أستاذة جامعية للصحافة والأدب، تلقي محاضراتها في الجامعة والنوادي الثقافية، وتدلي بأحاديثها في الإذاعة عن الأدب والكتب.
كتبت يوماً قائلة: “كان في ذهني دائما شعورٌ كامنٌ بالخوف من العمى التام؛ وللتغلب على هذا كنت أعيش دائما حياةً مرحةً ضافيةً مبتهجةً في كل لحظة”.
وعندما بلغت الثانية والخمسين كان الطب قد تطور بحيث تمكن الأطباء من مساعدتها شيئا ما، حيث أجريت لها جراحة في عينها الوحيدة وصار بإمكانها أن ترى أفضل بمقدار أربعين مرة عن حالها طوال سنواتها الخمسين الماضية، وعندئذ انكشف أمامها عالمٌ مثيرٌ من الجمال والروعة والبهجة التي لم تعرفها من ذي قبل. صارت تجد حتى في غسيل الأطباق شيئاً مبهراً مثيراً، فكتبت تقول في أحد كتبها: “بدأت ألعب برغوة الصابون، وألاحق الفقاعات الصغيرة فألتقطها لأحملها أمام الضوء كي أشاهد ألوان أقواس قزح الصغيرة فيها، وأقضي الوقت أراقب أجنحة العصافير الخفاقة عبر النافذة، وهي تطير خلال الثلج الكثيف المتساقط”… وختمت قائلة: “يا إلهنا الذي في السماء، الشكر لك، الشكر لك”.
توفيت بورجيلد دال عن اثنين وتسعين عاماً، تاركة خلفها عشرات الآلاف من الأشخاص الذي تأثروا بمسيرة حياتها وصمودها ونظرتها المتفائلة لهذه الدنيا. رحلت من بعد أن خلدت ذكراها بتركة أدبية بلغت سبعة عشر كتابا، جاء آخرها تحت عنوان: “سعيدة طوال حياتي”!
سيرة حياة مبهرة وفيها الكثير من العبر، فهلا تذكر الواحد فينا أن يشكر ربه على كل شيء قد منحه إياه بالفعل؟ هلا تذكر الواحد فينا أن يحمد الله على نعمة البصر وعلى نعمة التمكن من مشاهدة كل تلك الأشياء الرائعة التي تحيط به طوال الوقت في هذا العالم المليء بالجمال؟
تسعون في المئة من حياة المرء تسير غالبا على ما يرام، وعشرة في المئة هي المتعثرة، ومع ذلك فإنه يصرف عقله وتفكيره ومزاجه ونفسه وسائر روحه في الانشغال بهذه العشرة في المئة متناسيا ذلك الجزء الجميل الأعظم من حياته.
يا صاحبي؛ اترك القلق واستمتع بالحياة، ولا تشعر بالإحباط أبدا لأنك لا تملك حذاءً، فهناك من لا يمتلك قدمين!
المصدر: الجريدة