الأربعاء ٢٢ يناير ٢٠٢٠
«مايكل نوفاك» فيلسوف أميركي محافظ توفي مؤخراً، اهتم في أعماله الفكرية بمسألة الحرية في الديانات التوحيدية، وقد اعتبر أن الإسلام بتصوره المعياري الشمولي عاجز عن توليد تصور أخلاقي بمعنى الذاتية الحرة، فالشريعة تصوغ كل تفاصيل حياة الفرد والجماعة، ولا تترك أثراً للعقل والحريّة. «نوفاك» يردد هنا أطروحة استشراقية معروفة، تحولت إلى محدد أساسي من محددات خطاب الإسلام السياسي في تصوره القانوني للشريعة من حيث هي محور الشرعية الدينية للدولة. ومن هنا تحول مطلب «تطبيق الشريعة» إلى جوهر المشروع الأيديولوجي لحركات الإسلام السياسي. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن مفهوم الشريعة في التقليد الإسلامي يختلف نوعياً عن هذا التصور المغلوط، الذي يستند إلى خلفيتين متمايزتين: خلفية لاهوتية يهودية بعيدة، وخلفية قانونية حديثة. أما الخلفية اليهودية فتتمثل في اعتبار «الشرع» المضمون الوحيد لعلاقة التعبد، من منظور أن الأوامر الإلهية هي إرادة الإله المنزلة مادياً (في شكل ألواح)، فلا سبيل لمعرفة الإله إلا من خلال تشريعاته الملزمة القاهرة، التي هي دعامة الهوية اليهودية ذاتها. هذا القصور القانوني للأخلاق (الأوامر القطعية الكلية)، هو الذي نجد شكله الفلسفي لدى كانط، الذي نقله من السجل اللاهوتي إلى السجل الإنساني الذاتي، بما عبر عنه الشاعر الألماني «هولدرلين» بقوله «إن كانط هو موسى أمتنا»، وأدركه الفيلسوفان الألمانيان شوبنهور وهيجل يربطهما الكانطية بروح اليهودية. ليس للشريعة في التقليد…
الإثنين ١٦ أكتوبر ٢٠١٧
حسب تقرير صادر مؤخراً عن المنظمة العالمية للشغل لا يزال أربعون مليون شخص في العالم يعيشون في ذُل العبودية، بل إن 89 مليون فرد يعانون جزئياً من أحد أشكال الرّق بمعانيه المعاصرة التي تختلف عن الشكل التقليدي الذي مرت به مختلف المجتمعات البشرية. لن نتحدث هنا عن بعض المظاهر الجديدة من العبودية المعروفة مثل تشغيل الأطفال والدعارة القسرية والعمالة السرية غير المعوضة، وإنما عن خطر إشكالية العبودية الجديدة لأنه مرتبط بطبيعة الثورة التقنية الجديدة. قبل سنتين أصدر ألف عالم من كبار علماء الطبيعة في العالم يتقدمهم العالم الفيزيائي الأشهر «ستيفان هوكينغ» رسالة مفتوحة حذروا فيها من إنتاج «الإنسان الآلي المقاتل» الذي أصبح حقيقة فعلية، معتبرين أنه قد يعرض مستقبل البشرية بكامله للخطر، ويلغي كل الأبعاد الإنسانية في الحرب. الاكتشاف التقني المذكور ليس سوى امتداد للتوسع في الاتجاه إلى تعويض الوظائف البشرية التقليدية بالآلة، وهو اتجاه انطلق في بدايته من هدف تحرير الإنسان من التبعية للطبيعة وفق المبدأ الذي صاغه الفيلسوف «ديكارت» في تصوره للعلم التجريبي الحديث الذي من شأنه أن بجعل الإنسان «سيداً ومالكاً للطبيعة». بيد أن الثورة التقنية الثانية القائمة على الذكاء الصناعي والتصرف الجيني والاتصال السريع غيرت جوهرياً طبيعة علاقة الإنسان بالآلة إلى حد أن البعض بدأ يطرح احتمال عبودية الإنسان لمنتجه التقني الذي بدأ يخرج عن سيطرته…
الإثنين ٣١ يوليو ٢٠١٧
في الندوة الأخيرة من ندوات موسم «أصيلة» كان الموضوع المطروح هو «الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية»، وكان من الطبيعي أن يكون تحدي الإصلاح الديني في الإسلام من الاهتمامات الرئيسية للمتحاورين في هذا اللقاء الفكري المتميز. والحال أن المقارنة مع الإصلاح الديني في المسيحية كثيراً ما ترد على الألسن، أليس هذا الإصلاح الذي بدأ في القرن السادس عشر، هو الذي مهد لعصور الحداثة والتنوير، وأخرج أوروبا الوسيطة من الحروب الأهلية والجمود العقلي والاستبداد السياسي؟ تلك أطروحة سائدة في الدراسات الاجتماعية، وقد ركزها عالم الاجتماع الألماني الكبير «ماكس فيبر» في نظريته الشهيرة حول علاقة الروح البروتستانتية بنشأة الرأسمالية الحديثة. ومع انبثاق ما يدعى عادة بالإصلاحية الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت المقارنة بين جهود الإصلاحيين المسلمين في العقيدة والفكر والتراث الإصلاحي المسيحي حاضرة في الأذهان، بيد أن هذه المقارنة لا تستقيم من أوجه عديدة، سواء تعلق الأمر بالسياق أو الاتجاهات والمفاهيم والآراء والأفكار. وبالرجوع إلى كتابات الإصلاحيين المسيحيين وفي مقدمتهم «كالفن»، يتبين أن الهدف المحوري الذي وجههم هو الوقوف ضد السلطة المؤسسية لكنيسة روما في نقاط ثلاث أساسية هي: أولوية السلطة البابوية روحياً وسياسياً على السلطة المدنية، الهيمنة الروحية للبابا على الحقل الديني، احتكار السلطة الكنسية حق تأويل النص المقدس، وما يترتب عليه من مسلك الخلاص الفردي. الغالب…
الإثنين ١٣ فبراير ٢٠١٧
من أخطر انعكاسات الحروب والصراعات الأهلية التي تمر بها منطقتنا راهناً، تغيير جذري في تركيبة النسيج البشري للمجتمعات العربية بتصاعد موجات «التصفية» الدينية والطائفية لخلق كيانات «متجانسة» بالقوة والعنف. إلى عهد قريب كانت مجتمعاتنا متنوعة كغيرها من بلدان العالم، كانت الأحياء اليهودية مكوناً من مكونات بعض هذه المجتمعات في مشرق العالم العربي ومغربه، وإن انحسر هذا الوجود اليهودي بعيد الحروب العربية الإسرائيلية. وإلى حد الموجة الجنونية التي عرفتها بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة، كانت أغلب مجتمعاتنا متنوعة طائفياً دون مشاكل في التعايش، ولم يكن خط الاختلاف الطائفي محدداً في الهوية السياسية في العراق وسوريا واليمن، كما أن العامل الديني لم يكن عقبة في تماسك المجتمعات في البلدان ذات الأقليات المسيحية. وفي الأقطار العربية ذات التنوع الديني والطائفي قامت الثقافة السياسية على الأيديولوجيا العروبية التي شكلت وعاءً ناجعاً لاستيعاب الاختلافات العقدية ضمن منظور يستند للهوية القومية الجامعة بمرتكزاتها الثلاث: اللغة والتقليد التاريخي والوعي الشعوري، وهي مفاهيم بلورها مفكرا القومية العربية الأبرزان: ساطع الحصري (المسلم) وميشل عفلق (المسيحي). ورغم تجاوزات الأنظمة القومية العروبية السلطوية، فإنها استطاعت إلى حد بعيد تأمين السلام الأهلي في سياق مشروع الدولة الوطنية ذات المضمون القومي الكلي في مواجهة الهويات الفرعية، مستلهمة تجربة الدولة القومية الأوروبية التي بلورت هذه الصياغة في مشروعها لبناء هوية سياسية بديلة عن…
الثلاثاء ١٥ نوفمبر ٢٠١٦
رغم الضجة الهائلة التي خلفها نجاح «رونالد ريغن» عام 1981، لم يحدث للولايات المتحدة أن عرفت هزة سياسية مماثلة لتلك التي ولدها وصول رجل الأعمال المثير للجدل «دونالد ترامب» للسلطة في انتخابات 9 نوفمبر الجاري. لم يكن ريغن القادم للعمل السياسي من هوليوود غريباً عن الحقل السياسي الأميركي وهو الذي تولى لمدة دورتين ولاية كاليفورنيا ومثّل الجناح الأقوى في الحزب الجمهوري (الجناح النيوليبرالي المحافظ) كما أحاط نفسه بأبرز رموز النخب الجامعية الأميركية، فيما بدا ترامب نشازاً في الحياة السياسية حتى داخل الحزب الذي رشحه للسلطة، محدود الصِّلة بمراكز التأثير والنفوذ الفاعلة في الشأن العمومي بما فيها الأوساط الإعلامية. كثير من المعلقين والمحللين اكتفوا في تفسيرهم نجاح ترامب بأطروحة «العولمة المريضة»، أي الاختلالات الاجتماعية المتولدة عن حركيّة التبادل الاقتصادي والتجاري مع العالم، والتي قوضت القاعدة الصناعية المحلية وقلصت فرص الشغل وحكمت على ملايين الأميركيين بالتشريد والإقصاء. الاختلالات المتولدة بالخصوص عن الأزمة المالية الأخيرة هي التي تفسر وفق هذه المقاربة نجاح ترامب في ولايات الحزام الصناعي الأميركي التي كانت موالية تقليدياً للديمقراطيين، كما تفسر انحياز الكتلة الانتخابية العمالية له. ومن الجلي أن برنامج ترامب الاقتصادي يتمحور حول حماية الصناعة الوطنية ومراجعة اتفاقيات التبادل الحر مع أوروبا وأميركا الشمالية والصين وغلق أبواب الهجرة الخارجية. بيد أن هذه الأطروحة الاقتصادية لا تكفي لفهم الزلزال…
الإثنين ٢٦ سبتمبر ٢٠١٦
في رسالته إلى الكونغرس لشرح اعتراضه على مشروع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» (جاستا)، اعتبر الرئيس الأميركي «أوباما» أن من شأن هذا القانون حالة إقراره أن يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر بانتهاكه مبدأ سيادة الدول، ويقوض مبدأ الحصانة السياسية الذي هو من مقتضيات الدبلوماسية العالمية الحديثة. لا يمكن الفصل بين هذا المشروع الغريب وجملة من التحولات النظرية والمعيارية بدأت منذ العقدين الأخيرين تغير قواعد السلم الدولي التي وضعتها الإنسانية لترتيب العلاقات بين الدول. ومعلوم أن نشأة الدولة القومية الحديثة المرتكزة على مبدأَي السيادة والإقليمية واكبه اتجاه متنامٍ إلى الضبط القانوني للعلاقات الدولية. وفق هذا التحول تبلور منطلقان أساسيان لترتيب النظام الدولي هما: احترام مبدأ السيادة المطلقة للدول، ومنع الحرب العدوانية الهجومية، بما يعني حصر العنف المشروع في عنف الدولة السيادي داخلياً وعنف المقاومة ضد العدوان الخارجي. وظل الإشكال الفلسفي الكبير الذي شغل المفكرين السياسيين الأوروبيين منذ كانط هو كيف يمكن تعميم قواعد السلم الأهلي إلى الإطار الدولي بما يعني إمكانية قيام سلطة عليا تنتظم العلاقات الدولية وفق قواعد قانونية كلية. إنه الإشكال الذي لخصه الفيلسوف الألماني هيغل في فلسفته للقانون عندما بين تمكن القانون المدني الوطني من إقامة سلطة عليا كلية تتسم بالشرعية وتوكل لها مهمة حفظ السلم الأهلي وترتيب العدالة، فإن العلاقات بين الدول لا تزال تحكمها «حالة الطبيعة»…
الإثنين ٢٩ يونيو ٢٠١٥
سئل الشاب التونسي الصغير العائد من جحيم «داعش»؛ لماذا خاطر بنفسه في هذه الحرب المجنونة، فأجاب بكل براءة أنه كان يبحث عن عمل بعدما سدت أمامه آفاق الوظيفة، فأراد الخروج من تفاهة العيش الفارغ ورتابة اليوم الضائع. لا يعرف الشاب العائد شيئاً عن الوضع العراقي ولا تهمه عدالة القضية، بل لا تحركه الدوافع الدينية، وإنما أراد إثبات رجولته وفاعليته ومنح معنى لحياته الفارغة. لا يخفى أن الحرب حاضرة بقوة في المخيال الرمزي العربي، فهي لوحة إسقاط كل معاني الفحولة والشجاعة وقيم المروءة والنجدة والتضحية. في المخيال العربي العام يحضر رمزان قويان: عنترة شاعر القبيلة الذي يقتحم الموت باسماً للدفاع عن شرف العشيرة، وخالد سيف الله المسلول على أعدائه الذي يستميت في الدفاع عن العقيدة والأمة. وفي العصر الحاضر دخلت إلى المخيال حروب التحرير الوطنية وعلى الأخص حرب الجزائر بشهدائها الذين تجاوزوا المليون، ثم الحروب الفلسطينية التي ألهبت خيال آلاف الشباب العربي الذين تطوعوا للقتال في مخيمات المقاومة في لبنان. أنماط جديدة من الحروب بدأت بما عرف بالجهاد الأفغاني في الثمانينيات، قامت على مفهوم «الحرب الدينية المقدسة» لمواجهة «الغزو الشيوعي الإلحادي»، وانتهت في سياق الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق إلى تكريس عولمة «الجهاد وتحويره إلى العمل الإرهابي الانتحاري الذي شكل» تنظيم «القاعدة» محطة كبرى في مساره المتصل. ما يتعين التنبيه إليه…
الإثنين ١٣ أبريل ٢٠١٥
المشهد الشرق أوسطي الحالي يتسم بثلاثة متغيرات جديدة تستحق الانتباه: أولها: انتقال مركز التأثير والفاعلية داخل النظام العربي من المحور المشرقي إلى منطقة الخليج مع بروز محاولة جديدة لترميم المعادلة الإقليمية لمواجهة مخاطر التحلل الداخلي والتدخل الخارجي. ثانيها: تمحور عملية الصراع الإقليمي حول النزاع العربي - الإيراني إثر استفحال التدخل الإيراني في الأزمات الحادة التي تعصف بعدد من البلدان العربية الرئيسية وفق تخريج طائفي مدمر. ثالثها: تغير نوعي في الموقف الأميركي إزاء المعادلة الشرق أوسطية بالانفتاح على إيران، مما فرض على الطرف العربي لأول مرة منذ الثورة الخمينية 1979 تدبير السياسات الإقليمية بطريقة منفردة دون التعويل على التنسيق مع الشريك الأميركي. السؤال المطروح اليوم بقوة هو: كيف يمكن أن نقرأ هذه المتغيرات من زاوية الرؤية الاستراتيجية الأميركية الجديدة للمنطقة، التي يبدو أنها شهدت في حقبة الرئيس أوباما تحولات جذرية في التوجه والأولويات والمواقف؟ الواقع أن أوباما أفصح خلال السنوات الأربع الأخيرة وفي مرات متتالية عن هذه التحولات التي انعكست في إدارة ملفات ثلاث: حركية «الربيع العربي»، الحرب الأهلية في سوريا والعراق، الملف النووي الإيراني. والملاحظ في هذا السياق أن استراتيجية أوباما تأرجحت بين توجهين متعارضين: النزوع الرسالي المثالي من خلال خطاب نشر الديمقراطية وفرض التغيير الداخلي والنزوع الواقعي البراجماتي في التعامل مع الأزمات الإقليمية (الإحجام عن إسناد المعارضة السورية والصفقة…
الإثنين ٠٢ فبراير ٢٠١٥
«رمي براغ» فيلسوف مسيحي فرنسي يزعم التخصص في الدراسات الإسلامية، كتب بعد الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" سلسلة مقالات وتصريحات إعلامية يذهب فيها إلى القول إن جذور التعصب والعنف موجودة في النصوص الإسلامية المؤسسة، وإن المتطرفين والإرهابيين ينفذون أحكاماً صريحة في الشريعة الإسلامية. الأطروحة ذاتها هي التي قدمها براغ في كتابه "قانون الله"، الذي اعتمد فيه مقاربة مقارنة بين الديانات التوحيدية الثلاثة، خلص فيها إلى أنه إذا كانت المسيحية ديانة حب وأخلاق من دون مضمون قانوني، ومن هنا تلاؤمها مع النظم العلمانية الحديثة، فإن الإسلام في بنيته العقدية والتعبدية ديانة قانونية - سياسية لا يمكن أن ينفصل فيها الدين عن الدولة، ولا يمكن أن تتلاءم مع معايير الحداثة السياسية. من المعروف أن أدبيات الإسلام السياسي تعزز هذا التصور من خلال مقولة ازدواجية الدين والدولة وتحويل الشريعة إلى مدونة قانونية بالمعنى الحديث للعبارة، دون وعي بالفروق الجوهرية بين تجربة الحكم الإسلامي والدولة الحديثة، ودون تبين الاختلاف النوعي بين المنظور القيمي المعياري في الشريعة والمنظور الوضعي السياسي للقانون الحديث، الذي هو مقوم شرعية الدولة القومية الحديثة. تتمحور هذه الفروق بين نظام الشريعة الإسلامية ونظام القانون للدولة الحديثة في مستويات ثلاثة محورية هي معيار السيادة، وطبيعة الجسم السياسي، وطبيعة الأمرية القانونية. فبخصوص معيار السيادة، من الواضح أن هذا المفهوم هو المحدد لنموذج الدولة…
الإثنين ١٢ يناير ٢٠١٥
حذر العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطاب له قبل ثلاثة أشهر الدول الغربية بأنها مُعرضة للإرهاب في الفترة القريبة القادمة، إذا لم تأخذ الخطر بجد وتقف مع جهود البلدان العربية التي تواجه اليوم أعتى وأخطر تحديات الإرهاب بعد بروز الدولة «الداعشية» وتمددها على مناطق واسعة من العراق وسوريا. ها هي موجة الإرهاب العنيفة التي ضربت فرنسا، تؤكد صدق هذا التوقع، وتنقل الخطر إلى قلب أوروبا، في الوقت الذي ترتفع في الإعلام الغربي الأصوات الإسلاموفوبية المعروفة (من أمثال الفرنسيين إريك زمور وميشيل هولبك) مطالبة بشن الحرب «الحضارية» ضد «البربرية الإسلامية». الخطاب السائد في الإعلام الغربي هو أن الإرهاب «الإسلامي» صدرته البلدان العربية الإسلامية فكرياً ومولته ونشرته، ولا سبيل لمحاربته جوهرياً دون مراجعات جذرية في البنيات العقدية والتشريعية للدين الإسلامي نفسه. هذا الرأي السائد لا يصمد أمام التمحيص والتحقيق، فالواقع أن الدول الغربية هي التي صدرت الإرهاب للبلدان العربية الإسلامية، وهو التي وطدت منابعه وحمته في المهد، ووقفت ضد إجراءات مواجهته التي اتخذتها دول المنطقة. ليس من المصادفة أن الشابين الفرنسيين اللذين هاجما مجلة «شارلي إبدو» ولدا في فرنسا وتربيا فيها، ولا يختلف مسارهما عن تجربة شباب الأحياء الهامشية الفقيرة التي يعيش فيها أغلب أبناء المهاجرين ممن تتلقفهم شبكات الجريمة قبل أن ينساق بعضهم لشبكات الإرهاب والتطرف الديني. ولم يكن…
الإثنين ٠٨ ديسمبر ٢٠١٤
في الوقت الذي أكد مؤتمر الأزهر الذي انعقد مؤخراً بالقاهرة بمشاركة كل طوائف الأمة ضرورة شن حرب دينية لا هوادة فيها ضد إرهاب المجموعات المتطرفة، أثبتت الأحداث التي تعرفها المنطقة حالياً أن الأمر لا يتعلق بمجرد نشاط تنظيمات معزولة صغيرة، وإنما بتحد خطير وظاهرة متشعبة المكونات والخلفيات، لها بيئتها الثقافية الحاضنة وخطابها التعبوي الناجع وتمفصلاتها الاجتماعية المتنوعة. وكما بين سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي أن أول خطوة لمواجهة هذه الظاهرة هي تفكيك لعبتها المصطلحية برفض توظيفها للمعطى الديني (مثل استخدام الدولة الاسلامية بخصوص الحركة الداعشية)، باعتبار أن المفاهيم والألفاظ من صلب استراتيجية المواجهة، أو حسب عبارة علماء الاجتماع كل صراع أصناف (أي طبقات ومجموعات) يواكبه صراع تصنيف بمعنى التعبير والتأويل والتحديد. وإذا كانت الأدبيات الغربية تنضح في أيامنا بمقاربات زائفة تربط العنف والتطرف بجوهر الدين الإسلامي، سواء بنعته بأنه الدين الأوحد الذي لا فصل فيه بين الديني والسياسي، أو بالقول إن عقيدته الخلاصية تلغي بالإكراه والقوة كل مخالف في الملة والمعتقد، إلا أن هذه الآراء المنتشرة على نطاق واسع، والتي من السهل دحضها لا تستند لأي منظور معرفي رصين، وإنما تكرر مستنسخات معروفة في خطاب الإسلاموفوبيا الصاعد الذي تغذيه جرائم المجموعات المتطرفة. ومع ذلك لا مندوحة من الإقرار بأن هذه الجماعات المتشددة استطاعت استمالة…
الإثنين ١٧ نوفمبر ٢٠١٤
لا مندوحة من الإقرار بأن الإسلام السُني بحاجة اليوم إلى إعلان حرب أفكار حقيقية لمواجهة خطاب التطرف الديني الذي تحول إلى معادلة جيوسياسية متمددة منذ إعلان «الخلافة الداعشية» التي اتسعت شبكة الولاء لها في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي. ما يجهله الكثيرون هو أن للحالة «الداعشية» فكرها وخطابها العقدي، الذي يتجاوز حيزها السياسي، وهو فكر يمكن اختزاله في أطروحة رئيسية هي أن العقيدة موقف انتمائي له مضمون إيماني محدد وإطار سياسي حاضن هو الشكل «الأصلي النقي» للدولة الإسلامية الشاملة لدار الإسلام. من الخطأ التهوين من خطورة هذه الأطروحة التي تغذيها روافد عديدة منتشرة، أهمها النظرية السلفية الكلاسيكية في اعتبارها الإيمان عقيدة محددة التفاصيل وممارسة تعبدية ملازمة لها، ونظرية الإسلام السياسي في الدولة المجسدة لقيم وأحكام الدين. ورغم ان النظريتين تختلفان مع تصورات الإسلام السُني التقليدي، إلا أنهما أصبحتا من مسلمات الثقافة الاسلامية المشتركة، إلى حد انتفى الخيط الواصل بينهما والخطاب الراديكالي العنيف الذي يمتاح رؤيته ومواقفه منهما في سياق صدامي عنيف، للعوامل المجتمعية والاستراتيجية دور في تأجيجه وتوجيهه. ولنبدأ بالأطروحة الأولى المتعلقة بمفهوم الإيمان وما يرتبط به عكسياً من منظور تكفيري عنيف واقصائي، مذكرين بمركزية هذا الإشكال في تاريخ الفرق وصراع الفتن في الإسلام الوسيط. ومن دون الخوض في هذا الموضوع المتشعب، نكتفي بالإشارة إلى أن التقليد السُني تشكل في…