ابراهيم البدوي
ابراهيم البدوي
وزير المالية السوداني السابق وخبير اقتصادي وزير المالية السوداني السابق

حين يتحوّل القياس التاريخي إلى تزييف أخلاقي: في تفكيك تشبيه حرب السودان بفرنسا بعد الغزو النازى

الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      لقد آليتُ على نفسي، منذ اندلاع هذه الحرب الماحقة، أن أكتب عن "اليوم التالى" بعد أن تضع أوزارها، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن واجب اللحظة لا يقتصر على إدانة الحرب أو السعي لوقفها فحسب، بل يمتد - وبإلحاح أشد - إلى التفكير الجاد في ما أعددناه لإعادة بناء السودان دولةًً ومجتمعاً، وترميم لُحمة شعبه ونسيجه الاجتماعي الذي مزقته هذه الكارثة أو كادت تقضي عليه. غير أن المؤسف حقاً أن الغالبية العظمى من كتّاب المقالات والرأي انغمسوا فى تناول يوميات الحرب ومساعي السلام الآنية - على أهميتها، دون أدنى تدبر منهجي أو فكري في سؤال: ثم ماذا بعد الحرب؟ والأسوأ من ذلك، أن المجال العام بات رهينة لسرديات سطحية مدمرة تُضخ عبر "اللايفات" ومنصات التواصل الاجتماعي، على ألسنة أنصاف مثقفين و"فلاسفة" افتراضيين لا يجيدون سوى نفخ كير الحرب، وإذكاء نوازع العنصرية والجهوية، وإعادة إنتاج خطاب الكراهية والانقسام.      وفي هذا السياق، الذي يمكن اعتباره - مجازاً وبقدر كبير من الترخّص - نقاشاً حول إنهاء الحرب، طالعنا مؤخراً مقال للدكتور التيجاني عبد القادر، نُشر في صحيفة الشعب، أسقط فيه بصورة فجة علمياً ومعيبة أخلاقياً حالة فرنسا إبّان الاحتلال النازي على الحرب الأهلية الدائرة في السودان، داعياً بعض دول الجوار إلى التدخل العسكري لنصرة أحد طرفي…

“الغذاء دواء”: من الإغاثة إلى الاستثمار في تعافي السودان بعد الحرب

السبت ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٥

لا تُقاس فداحة الحرب في السودان بعدد الضحايا أو حجم الدمار المادي وحده، بل بما تُخلّفه من آثار صامتة وعميقة على الإنسان نفسه، وعلى رأسها الجوع وسوء التغذية. فكما بيَّنا فى مقالنا “المجاعة الصامتة: كيف يدمّر الجوع مستقبل السودان قبل أن تنتهي الحرب؟”(1)، فإن الجوع ليس أزمة إنسانية طارئة فحسب، بل صدمة اقتصادية ممتدة تهدّد رأس المال البشري وتعيد إنتاج الفقر عبر الأجيال، وتضرب أسس التعافي والنمو حتى لو توقفت الحرب غداً. في هذا السياق، تبرز مبادرة “الغذاء دواء” بوصفها طرحاً عملياً ومبتكراً يعيد تعريف الاستجابة للجوع من الإغاثة قصيرة الأجل إلى سياسة وقائية – تنموية متكاملة. فكرة المبادرة: حين يصبح الغذاء أداة علاج ووقاية تقوم مبادرة “الغذاء دواء”، التي ابتدرها البروفيسور أبوبكر شداد (استشاري أمراض الجهاز الهضمي) والبروفيسور إبراهيم باني (أستاذ الصحة العامة)، على منهج جديد يدمج بين التغذية العلاجية والوقاية الصحية. فبدلاً من الفصل التقليدي بين الغذاء كاستجابة إنسانية، والدواء كخدمة صحية، تقترح المبادرة تقديم وجبات غذائية مدعّمة ومصمّمة طبياً، أو تدعيم مدخلات الغذاء الأساسية (مثل الدقيق)، بحيث تؤدي وظيفتين متلازمتين: سد الفجوة الغذائية، ومعالجة أو منع تفاقم الحالات المرضية المرتبطة بسوء التغذية. ويستهدف البرنامج الفئات الأكثر هشاشة: أطفال المدارس والكتاتيب، كبار السن، النساء في مراحل الحمل والولادة، والنازحين في مناطق النزاع والريف. وهي الفئات ذاتها التي أظهر…

المشروع الوطنى لليوم التالى في السودان: من الرقمنة إلى المعجزة التنموية خلال جيل واحد

الأربعاء ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٥

   * وزير المالية السوداني السابق خاص لـ هت بوست : مقدمة في مقالنا السابق الموسوم "المشروع الوطني لليوم التالي: البرنامج الإسعافي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوي"(1)، قدّمنا تصوراً اقتصادياً متكاملاً لمرحلة ما بعد الحرب يقوم على أربعة مكونات رئيسية: استعادة الأمن والعون الإنساني؛ تعبئة الموارد الذاتية والدولية المجمّدة؛ تشغيل الشباب عبر برامج "النقد مقابل العمل"؛ وإعادة بناء الخدمة المدنية من خلال منهج "التشبيب" والمصافحة الذهبية. ويرتكز هذا المشروع على ثلاث دعائم اقتصادية ضرورية لإعادة الإعمار، هي: الانتقال من التقشف إلى النمو؛ التحول الهيكلي في الزراعة وبناء ممرات الإنتاج حول المدن الكبرى؛ وإنشاء صناديق الحماية الاجتماعية الشاملة والتحويلات النقدية. ولأن أي برنامج جاد لإعادة الإعمار والانطلاق نحو التحولات التنموية الكبرى ليس وصفة تقنية معزولة، بل جزء من مشروع وطني أشمل، فقد أكدنا في مقالات سابقة أهمية خمس مرتكزات سياسية ومؤسسية حاكمة لنجاحه: الشرعية الاقتصادية؛ النظام الرئاسي - البرلماني الهجين؛ الانتقال من نظام الولايات إلى نظام الأقاليم والمحليات حول المدن الكبرى؛ حكومات الوحدة الوطنية؛ والسردية الوطنية الجامعة. وانطلاقاً من ذلك، نواصل في هذا المقال تناول مكونات المشروع الاقتصادي بمزيد من التفصيل، مستهلّين بسؤال محوري يتعلّق بتدريب وتوظيف الشباب لدعم العون الإنساني، والمساهمة في إعادة الإعمار، والمشاركة في إعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية. فالدولة الحديثة بعد الحرب لا تُبنى على أعمدة الماضي…