الإثنين ٢٧ مارس ٢٠١٧
المقارنة بين ما يكتبه كتابنا الكبار اليوم، وما ينشر في وسائل الإعلام، وما كان يكتب وينشر منذ مائة عام، تثير الكثير من الأفكار والأسئلة عما حدث للمجتمع خلال هذه الفترة، فأدى إلى هذه الفوارق الشاسعة. إني لا أقصد لغة الكتابة (وإن كان هذا يلفت النظر أيضا)، بل مضمونها. وأقصد على الأخص موضوعاً بذاته كان دائم التردد على أقلام كتابنا وألسنتهم، ولا تكاد تجده فيما يكتب وينشر اليوم. أقصد موضوع «النهضة» وما نحتاجه حتى نلحق بالأمم الأكثر تقدماً في مضمار الحضارة. هل يمكن حقاً أن يكون موضوع «النهضة» قد اختفى من جدول أعمالنا، لعلنا نعبر الآن عن الهدف نفسه ولكن بتعبيرات مختلفة؟ قبل منتصف القرن الماضي لم يكن شعار «التنمية الاقتصادية» شعاراً مالوفاً، ولا تعبيرات مثل «الدولة المتخلفة اقتصادياً»، ولكن سرعان ما انتشر التعبيران ومرادفاتهما، واعتبرت التنمية الاقتصادية هي الهدف الأسمى أو الأكثر إلحاحاً للدول التي أطلق عليها اسم «العالم الثالث». احتل هدف التنمية الاقتصادية بسرعة مكانة هدف النهضة، ولم تذرف أي دموع على هذا الاستبدال، مع أنه كان ينطوي في الحقيقة على تغير خطير في طموحات هذه الدول وفى سياسات حكوماتها. من الشيق أن نحاول تفسير هذا التحول، من شعار أو هدف النهضة إلى شعار وهدف التنمية الاقتصادية. هناك عدة تفسيرات ممكنة. كان شعار النهضة شائعاً طوال عصر الاحتلال الأجنبي،…
الأربعاء ٠١ مارس ٢٠١٧
المصريون، ينتمون إلى طبقات مختلفة، والطبقة الوسطى قد يطرأ عليها التغير أكثر من الطبقات الدنيا أو العليا، بحكم أنها تتغذى باستمرار من الصاعدين إليها من درجات السلم الدنيا، أو الهابطين إليها من الدرجات العليا، ويحكم ميل أفرادها- أي أفراد الطبقة الوسطى- أكثر من غيرهم عمن هم أدنى منهم، ولكن كل هذا قد يؤدى إلى تغير السلوك، والتغير في السلوك أكثر تقلباً، وأقل عمقاً من تغير الأخلاق. وقد كتبت منذ نحو عشرين عاماً كتاباً كان معظمه يدور حول سلوك الطبقة الوسطى المصرية، خلال نصف القرن السابق، والأسباب الدافعة إلى هذه التغيرات المستجدة، ولكنى لاحظت بعد ذلك المزيد من التغيرات فى سلوك الطبقة الوسطى، لأن هذا السلوك لا يكف عن التغير، من ناحية، ولأن ما كان خافياً قد أصبح أكثر وضوحاً، من ناحية أخرى. إنى ما زلت أذكر أشياء كانت تحدث فى مصر، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ويصعب تصور حدوثها الآن، ويرجع وجودها حينئذ، فى رأيي ثم اختفاؤها الآن إلى ما طرأ على الطبقة الوسطى المصرية من تغيرات عميقة أو سطحية، ولكنها نادراً ما تخلو من طرافة. أذكر مثلاً أنني فى أوائل أو أوساط الأربعينيات من القرن الماضي، كنت أذهب أحياناً إلى المسرح فى صحبة أبي وبعض إخوتي لنشاهد إحدى المسرحيات أو لنستمع إلى غناء خفيف ممن كانوا يسمون وقتها «بالمونولوجست»،…
الثلاثاء ٢٣ فبراير ٢٠١٦
من منا لم يسمع هذا المثل الشعبي القديم (إن فاتك الميري تمرغ في ترابه) في مدح الوظيفة الحكومية وتفضيلها على أي وظيفة في القطاع الخاص؟ مزايا الوظيفة الحكومية معروفة: فالذي يحصل عليها لا يفقدها إلا لسبب قوي وبإجراءات معقدة، وصاحبها يضمن بعد أن تنتهي مدة خدمته أن يحصل على معاش يحميه من المذلة في شيخوخته، وإجازات الموظف الحكومي كثيرة. وتخدم احتياجاته الصحية والعائلية، وساعات العمل في الحكومة محددة ولا تمتد إلى ما بعد ترك مكان العمل، والترقية إلى وظيفة أعلى لا تحتاج في معظم الأحيان إلى أكثر من مرور الوقت، كما أن المرتب الحكومي ظل محترماً ويساير ارتفاع تكاليف المعيشة حتى وقت قريب. كنت في الخامسة من عمري (وكان ذلك منذ أكثر من 75 عاما)، عندما أرسلني أبواي إلى مدرسة روضة الأطفال بمصر الجديدة: لا زلت أذكر مبناها الجميل في شارع هادئ وحديقتها الواسعة، ولكني استغربت بشدة عندما تذكرت أيضا أن روضة الأطفال هذه لم تكن مدرسة حكومية، إذ لم يعد مثل هذا موجودا الآن في مصر، إلا نادراً جداً، ولعله أصبح أيضاً شيئاً نادراً في العالم كله. مدارس الأطفال الصغار كلها تقريبا أصبحت مدارس خاصة، ويقام معظمها بهدف الربح. مدرستي التالية كانت أيضا مدرسة حكومية، ثم المدرسة التالية لها ثم التالية، حتي بلغت السادسة عشرة من عمري فدخلت جامعة…