مها علي أبو حليقة
مها علي أبو حليقة
كاتبة اماراتية

ثنائية الحضور والغياب

الأربعاء ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست: طوال أسبوعٍ كاملٍ أرقّني سؤالٌ واحد: هل حقًّا يشغلنا الغياب أكثر من الحضور؟ وإذا كانت الإجابة في حالاتٍ عديدة: نعم، فما الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ يبدو، بطريقةٍ ما، أن في فطرة الإنسان نزعةً خفيةً تجعله لا يرى قيمة الأشياء إلا حين تفلت من يده. وكأننا لا نتقن التقدير إلا من زاوية الغياب، حين يتحوّل الحضور إلى ذكرى، ويصبح ما كان مألوفًا استثنائيًا لمجرد أنه لم يعد موجودًا. وتلك ظاهرةٌ نفسيةٌ قبل أن تكون سلوكية؛ تُرجعها دراسات علم النفس إلى ما يُعرف بـ«تكيّف المتعة» Hedonic Adaptation، وهو ميل الإنسان إلى التعود السريع على النعم والمكتسبات حتى تفقد تأثيرها العاطفي مع مرور الوقت. هل تذكر تلك اللوحةَ الرائعة الجمال التي سعيتَ لامتلاكها، وأفردتَ لها زاويةً أثيرةً في منزلك؟ كم مضى من الوقت قبل أن تغدو وتروح بجوارها دون أن تشعر بوجودها؟ وماذا عن ذاك المنتجع السياحي الذي حلمتَ بقضاء عطلتك الصيفية فيه؟ شهقتَ لجمال الإطلالة، للخُضرةِ اليانعة والمياه الرقراقة والطيور المحلّقة، لكن ما إن أمضيتَ فيه بضعةَ أيامٍ حتى ألفتَه، بل صرتَ تتأفّف من طبيعة الجو ومن طنينِ بضعِ حشراتٍ تتطاير حولك وتزعجك. كما أن ألمَ الخسارةِ أقوى نفسيًّا من متعةِ المكسب؛ أي أن فقدانَ شخصٍ أو فرصةٍ يترك أثرًا مضاعفًا مقارنةً بفرحةِ الحصول عليه في الأصل، وهو…

أجيال وخصال

الأربعاء ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست: في حديث صريح جمعني بسيدات بلغن الستين أو تجاوزنها، قلت فيما يشبه "فشة الخلق" إنني أجدهم جيلًا يشعر بالاستحقاق والتميز، لديه شعور دائم بأنه مناضل وقدم العديد من التضحيات، وكاد أن يستشهد على أرض معارك العزة والكرامة والجهاد.. في حين أنه في الواقع جيل مدلل، ابتعث لأفضل الجامعات والتخصصات في الخارج بمجموع متواضع في الثانوية العامة، وتعين بمناصب عالية فور تخرجه من الجامعة، حتى وإن بتقدير مقبول! جيل حصد التكريم والجوائز والمنح، رغم تطرفه في كل الاتجاهات، تاركًا وسطيتنا غارقة في بحر من الذهول! وكان جدير بي أن أحزرَ أنه سيتوج "كبار مواطنين" عندما يبلغ الستين، ويحظى بالدلال والتميز والعناية الاجتماعية والصحية، والإعفاءات المالية، وتذاكر الدخول المجانية للمتاحف والمعارض والمناسبات العامة، وغيرها من مزايا.. دعونا نأمل ونتفاءل أن يحظى بها أو ببعضها جيلي وما يليه من أجيال عندما تبلغ السن ذاتها. المفارقة هي أن ما ظننته أنا ملاحظة واستنتاجًا شخصيًا على جيل سابق، تبين أنه حقيقة ديموغرافية، حيث يرمز لجيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الحقبة من 1946 - 1964 بمسمى Baby Boomers أو طفرة المواليد، وإن كان هذا المسمى قد ظهر في الولايات المتحدة، فإنه ينطبق على جيل بأكمله في معظم بقاع العالم، ارتبط بالامتيازات الحكومية والدعم في مجال الصحة والرعاية الاجتماعية والتعليم…

جواحظ وبورخيسيون!

الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      دعونا نعترف؛ يشعر جل مهووسي القراءة، الواقعين في غرام الأحرف والكلمات، ورائحة الحبر المعتق، وحواف الورق الجارحة، وردهات المكتبات ومنعطفاتها وأماكنها السرية، ومسراتها الخفية، أنهم مدينون بضريبة ما لكل هذه المتعة. يتوقعون حاصباً من السماء، أو على أقل تقدير يقدمون الضحايا والقرابين لمعبد القراءة من حقبة لأخرى. شخصياً، أصدق تماماً أن الجاحظ المأسوف على جحوظ عينيه، لقي حتفه تحت أنقاض مكتبته، أرى أنه بلغ بذلك منتهى كماله، ولست أعبأ بالأقوال المشككة في ذلك. أما تبرّأت منه أمّه لكثرة قراءته؟ أما أثْرى هذا العبقري خفيف الظل، المكتبة العربية والإسلامية، بمؤلفات لا تعد ولا تحصى في كل شيء تقريباً؟ لا تبدأ عند البيان والتبيان بأجزائه الأربعة، ولا تتوقف عند البخلاء، ولا تنتهي عند الحيوان بمجلداته الثمانية! وليس قوله: «لا أعلم قريناً أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا شجرة أطول عمراً، ولا أجمع أمراً، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مُجتنىً، ولا أسرع إدراكاً، من كتاب» بأعظم ما قال في الكتب. أرى أيضاً أن العمى نهاية منطقية جداً لبورخيس، الرجل الذي تخيل الجنة أقرب إلى مكتبة كونية، من قال إن الطريق إلى الجنة مزروع بالزهور والرياحين؟ ونجده يجاهر بقوله: «ليفخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها، أما أنا فسأفتخر بعدد تلك التي قرأت». قرأ وكتب ونقد وتخيّل وأبدع في مجالاتٍ عدّة، لعلّ أبرزها…

عشرة على عشرة!

الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      على أعتاب اليوم العالمي للصحة النفسية 10/10، وبصرف النظر عن الشعار والرسالة التي يحملها كل عام، يبقى النداء العام والفائق الأهمية: لنعتنِ بعقولنا كما نعتني بأجسادنا. ثمة مفارقة مؤلمة يعيشها العالم اليوم؛ لم يسبق أن توفّر هذا الكمّ من وسائل الراحة، ومع ذلك لم يسبق أن شعر الإنسان بهذا القدر من الإنهاك والاحتراق الداخلي. يمكن أن نعزو ذلك ببساطة إلى تسارع وتيرة الحياة وضغوط العمل والانْعزال الاجتماعي، والأوضاع الاقتصادية والسياسية والإنسانية العصيبة، من كوارث ومعارك وحروب وخيبات، ناهيك عن تزايد التعرّض لعشوائيات المحتوى الرقمي الذي سبق وتحدثنا عنه. ويمكن أن نضيف إليها هنا البون الشاسع بين عالمٍ وهميٍّ برّاق يستعرضه البعض، وواقعٍ مغايرٍ قاتم يعيشه البعض الآخر، فيغرق في بحرٍ من المقارنات والضيق والقلق والاكتئاب. تحضرني الآن مقولة الكاتب السوداوي فرانز كافكا: «ليس الجنون أن تكون مريضًا، بل أن تتظاهر بالعافية في عالمٍ ينهار من الداخل.» ولعله لخص بذلك جوهر المعاناة المعاصرة، حين يضطر البعض إلى إخفاء هشاشته خلف واجهة من القوة المصطنعة، وينسى أن في الاعتراف بالضعف في مثل هذه الأوضاع شجاعةً تامة. لكن المؤسف أن الوصمة لا تزال تحاصر من يطلب المساعدة النفسية في بعض المجتمعات؛ فرغم تزايد الوعي، يبقى الاعتلال النفسي نقيصة يتحرج منها من تربّى على الصبر والكتمان وربط المعاناة…

أدمغة تتعفن في عتمة مبهرة

الإثنين ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      أنتَ تستيقظ من نوم قلق، تتلمس يدُك طريقها في العتمة إلى هاتفك. كنت قد وعدت نفسك بالأمس أن تمارس بعض التأمل فور يقظتك، وأن تستخدم تقنيات استذكار الحلم، قلت إنك ستعود لتمارينك الصباحية وفطورك الصحي، لكنك تريد فقط أن تتبين الوقت أو تطفئ المنبه. لا تعرف كيف ومتى وجد إصبعك السبابة طريقه إلى تصفح عشوائي لبعض المواقع: كلاب ترقص، أسعار ذهب تتقافز، مشايخ تلقي مواعظها، أشلاء ودماء وبكاء، دروس في الطهي، أطفال مولودون بالذكاء الاصطناعي يفرّون من مستشفى للولادة! أنت الآن ترمي هاتفك بغيظ وتنظر إلى سقف غرفتك الذي أضحى لسبب ما أبعد من المعتاد، ولا تكاد تذكر آخر مرة تأملته، بادلته حفنة من الأسرار الطازجة، وطبعت قبلة على جبينه، وما عاد عندك متسع من الوقت لتسمع عتابه، ولا حتى لتتناول فنجان قهوتك المختصة بهدوء. تسرع إلى عملك وأنت ناقم ومشوش وشاعر بالغبن، لكنك لا تعلم على من؟ ولماذا؟ تجلس في اجتماع مجلس الإدارة بذاكرة مخرومة، ينساب منها سائل هلامي لعلّه أخضر مشع. تحاول أن تذكر كيف وصلت؟ وما الغرض من الاجتماع؟ الهدف؟ محضر الاجتماع؟ اسم "الأوفس بوي" الأسمر الذي يطالعك مبتسماً وتريد أن تطلب منه قهوة بطريقة لائقة؟ هل يريحك أن تعلم أنك لست وحدك؟ وأنها ظاهرة تكاد تكون كاسحة، اصطلح على تسميتها…

ما نحن؟

الإثنين ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست: يبدو أننا نميل كبشر، وبدرجات متفاوتة، إلى إلقاء كثير من اللوم على ذواتنا تجاه أشياء وأحداث بعيدة عن واقع تأثيرنا الفعلي.. وربما يحمل هذا في طياته شيئاً من الشعور الخفي بالرفعة والعظمة. اعتدت منذ حداثة نشأتي على الاهتمام بالبيئة، والتعاطي مع الموجودات كثروات ناضبة، فأقتصد في الماء والضياء والكهرباء بقدر المستطاع، وأعيد تدوير الأشياء بشكل تلقائي.. زاد هذا التوجه مع ثورة الحديث عن الاحتباس الحراري، وثقوب الأوزون، ومشاهد الدببة القطبية المسكينة والثلج يذوب من تحت أقدامها.. أطفئ الضوء وأفكر بها، وأعتذر لها وأنا أفرط في القراءة الليلية بلا حول مني ولا قوة. منذ أيام شاهدت في قبة معرض علمي مهيب فيلمًا وثائقيًا عن التغير المناخي الذي واجه الأرض في حقب تاريخية متعددة، وما رافقه من انقراضات عظمى أو موت كبير أودى بحياة العديد من أشكال الحياة البرية والبحرية على سطح هذا الكوكب، ومنها الديناصورات بكافة أنواعها. ناهيك عن كل التحولات الهائلة في جغرافيا الأرض ذاتها، كتل بأكملها انشقت وانزلقت مبتعدة بعضها عن بعض، لتشكل القارات التي نعرفها اليوم، محيطات شاسعة، وبحيرات، وأنهار، خطت طريقها بينها، جبال شاهقة ارتفعت، وأخرى تلاشت مع الزمن... تحولات عظيمة لم يكن للإنسان فيها من يد، ومع ذلك رسمت بزلازلها وبراكينها ملامح الكوكب الذي نسكنه اليوم. تساءلت حينها: ما نحن يا الله؟!…

رفرفة

الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      سمعتُ بكتاب "بدلة الغوص والفراشة" قبل بضع سنوات، وعلى الرغم من إغراء كونه مكتوبًا برمش العين اليسرى، إلا أنني تجنّبت قراءته، لأن كلمة "بدلة غوص" تستثير فيّ حالة فقدٍ خاصة .. فمنذ غياب أخي، بطل الإمارات وآسيا في الغوص الحر، بقيتُ أتجنب حتى النقطة فوق حرف الغين. لكن كما أن لكل أجلٍ كتاب، يبدو أن لكل كتابٍ أجل، وقد آن أوان هذه السيرة الذاتية الفريدة، كباكورة لقراءات "قنديل الأدب"، نادي القراءة الفائق البهاء، التابع لدائرة الثقافة والسياحة، والذي سرّني قبول دعوته الأنيقة، المتضمنة كل مرة لقاءً في أحد المتاحف أو المعالم السياحية البارزة في عاصمتنا الجميلة أبوظبي. نعود للكتاب .. لغة السرد، أسلوبها، دهاليزها ومتاهاتها، كمّ الذكاء الذي كُتبت به، غزارة المعلومات، يقظة التفاصيل، وحس الدعابة العالي، بل سأقول والتفاؤل والرغبة في الحياة أيضًا. فبالنسبة لشخص مثل جان دومينيك بوبي، صحفي وكاتب ورئيس تحرير مجلة شهيرة في أجواء عاصمة النور باريس، أن يجد نفسه وهو في أوائل الأربعينات ضحية جلطة دماغية حادة، تدخله في غيبوبة، يستفيق منها على حالة نادرة تُعرف بـ "متلازمة المنحبس" جسده مشلول بالكامل وهو ما عبر عنه بـ "بدلة الغوص" الثقيلة، بينما روحه ووعيه لا يزالان في أوج حضورهما، وقد صوّرهما بـ"الفراشة" التي ترفرف بعيدًا، وتحط في أماكن وذكريات وتفاصيل…