الخميس ٠١ أكتوبر ٢٠٢٠
كانت الكويت أول دولة تعلن استقلالها في الخليج العربي وتنهي معاهدة الحماية البريطانية. وكانت أول هدية عربية في استقلالها مطالبة الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم بضمها إلى العراق. كان الامتحان صعباً ومريراً؛ لكن الكويت نجحت في التصرف كدولة، ومضت تبني نفسها وفق أصول الدول الحديثة والكيانات العريقة. كان الشيخ عبد الله السالم رجلاً متنوراً أحاط نفسه برجال متنورين. وكان مدركاً أن أفضل حماية للدولة المستقلة استقرار داخلي وصداقات دولية متينة. في عملية البناء هذه، اختار جابر الأحمد لإرساء الصناعة النفطية، ثروة البلاد، واختار صباح الأحمد، لترسيخ دبلوماسية بارعة تبحر بالبلاد بين بحار العرب ومحيطات العالم. كان صباح الأحمد، لأكثر من أربعة عقود، رجل الظل في الداخل، ورجل الضوء في الخارج، ماهراً في الإدارة وبارعاً في السياسة. وعندما باشر في إنشاء وزارة الخارجية وعملها ومؤسساتها، تصرف وكأنه يخطط لدولة كبرى. وهكذا فعلاً بدت صورة الكويت في الجامعة العربية، وفي الأمم المتحدة، وفي كل مؤسسة دولية أخرى. وبسبب هذه الجدية المطلقة في العمل، استطاعت الكويت أن تقوم بدور الوسيط في قضايا العرب الشائكة، وهي كثيرة وأشواكها شتى. وبسبب مصداقيته وسعة صدره، أصبح صباح العرب وسيط العرب، يتطلعون إليه كلما وقعت أزمة أو اشتعلت حرب أو اشتد نزاع. وكان يحرص على أن يقوم هو شخصياً بالعمل الأساسي في كل وساطة. احتلال العراق للكويت…
السبت ٢٩ أغسطس ٢٠٢٠
في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل «يحتفل» لبنان بمرور مائة عام على إعلانه دولة مستقلة من قِبل فرنسا، الدولة المنتدبة. وفي أجواء الاحتفال السائدة أعلن وزير خارجية فرنسا أن لبنان مهدد بالزوال، أو الاختفاء. لم يحدث لوزير خارجية دولة كبرى، أو عادية، أن استخدم هذه اللغة في الحديث عن دول أخرى، من دون تردد أو حساب لأي شيء، ومن دون الأخذ في الاعتبار أي أدبيات دبلوماسية. وبين القول والقائل، هذا أخطر كلام رسمي، في وصف لبنان، يضاف إلى ما يقال كل يوم في صحف العالم وأروقته السياسية. قال الوزير الفرنسي هذا الكلام التحذيري بالكثير من اللامبالاة للسياسيين اللبنانيين وسلوكهم العدمي فيما يغرق بلدهم في أسوأ كارثة وأسوأ أزمة في تاريخه، وينحدر سريعاً إلى الإفلاس المادي والرعب الأمني والخوف من عودة الحرب الأهلية. وقد عادت مؤشراتها إلى الظهور يومياً في المناطق، من الشمال إلى الجنوب، وفي الأماكن السريعة الاحتكاك والاشتعال. في هذا المشهد الرهيب هناك سؤال واحد في السياسة اللبنانية: ماذا يريد جبران باسيل، وماذا يرضيه؟ والجميع يعرف الجواب: جبران باسيل لا يريد شيئاً، أو أحداً، سوى جبران باسيل. ولأن هذا ما يريده فإن رئيس الجمهورية المصادف حماه عائلياً، يريد ما يريده جبران، ولأن هذا ما يريده الرئيس فإن هذا ما يحرص عليه حليفه وشريكه في الحكم، «حزب الله». أكثرية اللبنانيين…
السبت ٠٨ أغسطس ٢٠٢٠
لم تكن هذه زيارة خاصة، ولا رسمية، في عالم العلاقات الدبلوماسية وبروتوكولاتها. كانت غارة ودِّية قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مبلغاً الدولة المضيفة بموعد وصوله، من دون أن يطلب إذنها، أو ينتظر تحديد موعد. في اليوم الثالث للانفجار، وصل الرئيس الفرنسي إلى بيروت، ومرّ بالناس قبل أن يلتقي المسؤولين. وتوفيراً للوقت التقى الرؤساء الثلاثة، في القصر الجمهوري، وهو مشهد يذكّر بيوم كان وزير الخارجية السوري يأتي إلى لبنان، فيجتمع له الرؤساء بصرف النظر عن القواعد والأصول، والمراتب الرسمية. لا وقت للبروتوكول في زيارة ماكرون. جاء معزياً بضحايا أسوأ انفجار في تاريخ لبنان، ومحذراً السلطة السياسية بأن لبنان على حافة النهاية كدولة قائمة. خاطب ماكرون اللبنانيين بعاطفة جيّاشة على الطريقة الفرنسية، وخاطب السلطة السياسية بغضب. وأبلغ أهلها أن لبنان هو أيضاً مسؤولية الأسرة الدولية، وعضو بارز في النظام الدولي. وهو لا يتحدث بصفته رئيساً للدولة التي أعلنت كيان لبنان ومنحته الدستور والاستقلال، وإنما من موقع فرنسا القيادي في أوروبا والغرب. وذهب ماكرون إلى أبعد مما توقعه أي فريق من اللبنانيين، عندما اقترح ميثاقاً جديداً يجمع بين أشلائهم وبقاياهم الوطنية. لم يحتمل العالم منظر بيروت وقد تحوّلت في لحظات إلى مخيم لاجئين، ومقبرة جماعية، وبؤرة إهمال رسمي جعل المدينة تنام على 2,750 طناً من المواد المتفجرة. قال الناس إنها هيروشيما، لكن…
الإثنين ١٣ يوليو ٢٠٢٠
عندما وصل «كورونا»، وجد العراق غير قادر على تشكيل حكومة، وسوريا غير قادرة على إنهاء الحرب، وأنجح نظام مصرفي عربي على شفير الإفلاس، وتركيا تقاتل في ليبيا بمرتزقة عرب، وإيران تتمشى –رغم الحظر– من المحيط إلى الخليج، وإسطنبول مقر الثورة العربية، والدوحة ملهمة التغيير. وجد «كورونا» أنظمة عربية لم تحقق شيئاً، وشعوباً فقيرة فوق أغنى الأراضي، وتفككاً سياسياً مريعاً يشلّ البلاد ويهدد المستقبل والوجود، نموذجه لبنان. لماذا إذن منطقة الخليج وحدها قادرة على الصمود؟ ولماذا وحدها تقدم المساعدات الكبرى للعالم بدل أن تطلبها؟ هل لأنها غنية بالنفط؟ لا. العراق أيضاً غنيّ بالنفط. وسوريا والجزائر وليبيا واليمن. لكنّ الخليج، حماه الله من محنة التجارب العسكرية المتجهة إلى تحرير فلسطين. لم يدمّر التعليم في دولة باسم فلسطين. ولم يحوّل إلى سجون وزنازين. ولم تصبح الثكنة مركز الفكر والتخطيط. لقد أضاع النظام العربي ستة عقود من أعمار الناس وثرواتهم في إسقاء شجرة واحدة هي الاستبداد. وأقام عروضاً عسكرية دائمة من دون انتصار واحد. وترك جميع الدول الأخرى تزدهر في الصناعة والزراعة والتجارة والعلم، فيما دولنا تتمنى –في العلن– العودة إلى زمن الاستعمار وظلم الغريب. يبحث لبنان عن نحو مائة مليار دولار تناوب السياسيون على سرقتها في مجزرة علانية لا حدود لصفاقتها. وللمرة الأولى في تاريخه، نرى الآلاف ينتظرون وجبات التبرع. ونرى رجالاً يبحثون…
الإثنين ١٥ يونيو ٢٠٢٠
لم يحدث في تاريخ العالم العربي، مشرقه ومغربه، أن كان على مثل هذا التفكك الداخلي والحصار الإقليمي. والإقليمي هنا، تمييز عن المراحل الاستعمارية، التي كانت تشمل الشعوب الأخرى أيضاً. لكننا اليوم أمام حصار سِمتُه الأولى علانيته الفاقعة، أولاً، كهوية وأهداف دينية مذهبية، وثانياً، كهوية عرقية قومية توسعية منذ آلاف السنين: إيران وتركيا وإسرائيل. إيران تنشر أساطيلها و«مستشاريها»، وتركيا طائراتها ومرتزقتها، وإسرائيل تضيف إلى الاحتلالات ما تبقّى من فلسطين التاريخية. إيران ذات حكم مذهبي رسمياً وشعارات مذهبية علناً، وتركيا تحت حكم «الإخوان المسلمين» ومشروعهم المعلن، وإسرائيل تستعد لإعلان الدولة اليهودية. في المقابل، هناك تهافت عربي لم يُشهد له مثيل حتى في أيام الاستعمار: سوريا في قلب الانفجارات، وعلى حافة الإفلاس، والعراق ما بين الأمل الأخير والخوف الأخير، ولبنان أُقحم في مجموعة الدول الفاشلة اقتصادياً واجتماعياً، وفاضت فيه رائحة الوقاحة المفضية إلى الخراب الوطني. تحاول القوى الثلاث تهديم المؤسسة العربية التاريخية: إيران تضرب السعودية والخليج العربي بكل الوسائل، وتركيا تضرب مصر بكل الوسائل، وإسرائيل تستغل انشغال العرب بأخطار الاثنتين لكي تستكمل مشروعها الاستيطاني، فيما كل عربي مأخوذ بمصيره، لا يدري إلى أي بلاد يلجأ، ولا في أي بحر يتيه. يعرض علينا «محور المقاومة» بديلاً لا يُقاوم: تحالفاً إنقاذياً مع فنزويلا، بلاد الحريات والعزة الوطنية. فإذا اتحد لاجئونا مع لاجئيها، عبرنا إلى الخلاص.…
الأربعاء ٠٣ يونيو ٢٠٢٠
كان الكاتب الأفرو أميركي جيمس بالدوين، يقول إن مشكلة الرجل الأبيض ليست في أنه لا يعرف الرجل الأسود، بل في أنه لا يعرف نفسه. راجع هذه الكلمات في ضوء مشاهد الجحيم المفتوح في المدن الأميركية، حيث تقابل وحشية الشرطي الأبيض بوحشية المتظاهر الأبيض أيضاً. حرائق ودمار وخراب بدل مظاهرة صامتة مثل تلك التي حملت مليون أسود ذات يوم إلى البيت الأبيض. العنف إحدى سمات المجتمع الأميركي. وسببه العميق الخوف من الآخر وعدم الاطمئنان إليه. ولذلك، اندفع الأميركيون إلى شراء الأسلحة بعد «كورونا» على نحو غير مسبوق، خوفاً من انتشار السرقات والتعديات. والولايات المتحدة هي ربما البلد الوحيد في العالم الذي يشرِّع اقتناء السلاح الفردي، ويسهل شراءه من دكانة الحي. و«اللوبي» الوحيد الأكثر قوة من «اللوبي» الإسرائيلي هو «لوبي» البندقية الأهلية. هي ثقافة تلقى معارضة كبرى، لكن هذه المعارضة لا تزال أضعف من تحقيق أي تقدم. يشد في أزر هذه الثقافة مشاهد مثل التي تفجرت بعد خنق جورج فلويد. يشعر الأميركي أنه بلا حماية كافية في منزله ومخزنه وسيارته، وسط شراسة الفوضى وانفلات الغرائز وتهافت القانون. فجأة يطل العنف من كل الجهات. وله أحزاب وأتباع في كل مكان. وباريس ليست أقل مَيلاً إلى الفوضى والتكسير والاعتداء على أملاك الآخرين. حيث يضعف القانون تستقوي الفوضى. وعندما تدب هذه، تتراجع جميع الروادع. وقف…
الثلاثاء ٢٦ مايو ٢٠٢٠
عنوان لكتاب ممتع للصحافي السويسري الألماني رولف دوبيللي، أما عنوانه الفرعي فهو «من أجل حياة أكثر سعادة وهدوءاً وتعقلاً». يروي دوبيللي كيف ولد في بيت صحافي، وأدمن ملاحقة الأخبار في الصحف والإذاعة والتلفزيون. ومع ظهور الهواتف الجوالة، أضاف الوسيلة الجديدة إلى حياة في الأخبار. وذات يوم اكتشف أنه يعيش حياة غير صحية على الإطلاق. جسداً وروحاً. إنه يتابع كميات من الأحداث التي توتره من دون أن يكون لها أي علاقة بحياته على الإطلاق: حرائق الأمازون، تهاوي سعر النحاس، الأعاصير في فلوريدا وديترويت، إضراب عمال المناجم في تشيلي، هبوط البورصة في الأرجنتين، ازدياد المجاعة في فنزويلا، صاروخ جديد في كوريا الشمالية، اجتماع مجلس الأمن، تصريح (آخر) للأمين العام للأمم المتحدة، مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني. تأمّل هذه الاهتمامات وقرر أن يضرب رأسه بالحائط. لا أخبار بعد اليوم. لا في الجريدة ولا في الإذاعة ولا في التلفزيون. لن يسمح بعد الآن لمحرر في نيويورك، أو البرازيل، أن يفرض عليه ما يجب أن يعرف وبماذا عليه أن يهتم. ولتذهب غابات الأمازون إلى الجحيم، وحظ طيب لعمال المناجم في تشيلي وفي كل مكان في العالم، لكن قلقه عليهم سوف يضر بأعصابه من دون أن يفيدهم في شيء. قرر إلغاء الخبر من حياته والاكتفاء بالمواضيع والدراسات والمطالعات والتحاليل المثقفة والذكية. أما إذا كان ذلك خبراً عالمياً…
الأربعاء ١٥ أبريل ٢٠٢٠
ربما هو، كما يقول معظم النقاد، أهم أديب في تاريخ فرنسا. وربما يكون صاحب أهم عمل روائي أُنجر في العزلة. وربما كان صاحب المدرسة الروائية الأكثر أثراً في الغرب. من وليم فوكنر في أميركا، إلى جيمس جويس في آيرلندا، إلى ماركيز في أميركا اللاتينية، ثمة مسحة من مارسيل بروست في كل عمل. ليست «البحث عن الزمن الضائع» أو «البحث عن الزمن المفقود» رواية تماماً، أو سيرة ذاتية، أو تأملات في الزمن والحياة. أي ليست هذه فحسب، لكنها عمل ساحر كيميائي راح يستعيد تفاصيل حياته حتى عام الثامنة والثلاثين عندما دخل إلى غرفة معزولة الجدران بالفلين، خوفاً من تسرب الغبار إلى سرير المصاب بالربو. ولم يعد يخرج، إلى أن انتهى من استعادة «الزمن المفقود» حرفاً حرفاً ومشهداً بعد مشهد. كان مصاباً بالوسواس الخنّاس، لا يقرب أحداً ولا يلمس شيئاً لمسه سواه، وكأنه يعيش في تعليمات «كورونا» اليوم. مثل أدباء كثيرين، لم نكتشف فرادته على الفور. ورفض أحد الناشرين الجزء الأول من «الزمن المفقود» على أنه حشو لا معنى له، فمن يكتب ثلاثين صفحة ليصف كيف نام على جانبه الأيمن، قبل أن ينقلب على الأيسر، ومن ثم ينتقل، صفحة بعد صفحة، إلى تأملاته الفلسفية في التاريخ والفن، بأسلوب شاعري، حزين أحياناً، مرح أحياناً، ساخر على الدوام. كل شيء يجب تدوينه. فنجان الشاي…
الأحد ٠٥ أبريل ٢٠٢٠
إلى الآن سبقت «كورونا» كل القوى المعروفة. قوة المال وقوة السلاح وقوة السياسة وقوة التحليل. لكن أخطر ما في هذا السباق الذي لا سابقة له ولا حدود ولا أهداف، أن «كورونا» سبق حتى الآن العلم. وفي انتظار أن يحقق العلم خرقاً أو تقدماً أو احتمالاً في هذه المواجهة، فإن فشل العلم هو الأكثر رعباً. الباقي يتدبّر. أميركا رصدت 3 تريليونات دولار. الخزائن الكبرى فُتحت. ولكن إليك هذا المشهد الذي لم تسمع أو تقرأ عنه من قبل: طاقم حاملة الطائرات الأميركية روزفلت يخلّيها في عرض البحر بسبب الفيروس الخفي. رسوم والت ديزني لم يخطر لها هذا المشهد: «روزفلت» يشلّها فيروس. القوى البحرية تحسب حساب كل الأخطار منذ أن اكتشف الفينيقيون الملاحة. إلا هذا. مجرد اكتشاف لقاح صغير وتعود دورة الكوكب إلى ما هي. لكن الفيروس ماضٍ في إذلال العالم. كل مرحلة يخرج ما يذل هذا الكائن المتباهي بتفوقه. عاش دهراً يعتقد أن الكواكب الأخرى هي التي تدور حول كوكبه، إلى أن أبلغه العلماء أن العكس هو الصحيح. وعاش الاتحاد السوفياتي سبعين عاماً يحلم بتدجين العالم في نظامه، وأفاق ذات يوم على أكبر هزيمة آيديولوجية في التاريخ. والآن يهدد النظام الدولي الأوحد هجوم غامض مثل القصص التي لا تخطر إلا للأطفال بسبب بعدها عن الاحتمال المنطقي: فيروس في مواجهة العلوم البشرية منذ…
الثلاثاء ٢٤ مارس ٢٠٢٠
تتابعت أخبار وقف الرحلات الجوية بسبب «كورونا»؛ شركة تلو أخرى. ولم تشكل عشرات ومئات الشركات شبه المحلية حدثاً في تاريخ الطيران. لكن عندما أعلنت «طيران الإمارات» وقف جميع رحلاتها، شعرت بأن هذه الصناعة المذهلة أقعدها حقاً الوباء الغاشم. لقد أصبح الإنسان مخلوقاً طائراً بعدما ظل لعصور كائناً برياً. ثم اكتشف الملاحة في البحار، فطارد مغارب الشمس ظاناً أنه سوف يلحق بها. لكن حلمه الأكبر كان الطيران. وأول من تحدى العلم جدياً كان القرطبي عباس بن فرناس (القرن التاسع) الشاعر والموسيقي وعالم الحساب. وقد حسب عالمنا الحساب لكيفية الإقلاع كما تفعل الطيور، وفاتَه، كعربي، حساب الهبوط، فلم ينتبه إلى أن الطيور تستخدم مخالبها مثل فرامل لإبطاء النزول. فحلّق وعلا، ووقع محطماً أضلاعه. لكن تجارب الطيران استمرت حتى أصبح من أهم صناعات الدنيا. وتقوم 250 طائرة في أسطول «الإمارات» بـ3.600 رحلة حول العالم كل أسبوع، فيما تزيد الرحلات الجوية على 45 مليون رحلة كل عام. لحق «كورونا» بالإنسان براً، وبحراً، وجوياً، وطارده إلى غرفة النوم، وعطّل حركته، وحقّر إنجازه بالطيران أسرع من الصوت. إنه، هذا الداشر القاهر الفاجر، أسرع من الصمت. حتى دور العبادة أغلقها في وجه الناس. حتى عيد الأم، أقدس أعياد البشر، مرّ من دون الغناء لِسِتّ الحبايب. الأبناء أنساهم الخوف ما لا ينسى، لكن الأم وحدها قالت لهم: انسوا…
الثلاثاء ١٠ مارس ٢٠٢٠
أعطيت جائزة مصطفى وعلي أمين «لشخصية العام» هذه السنة للأستاذة سناء البيسي. كان الكوميدي الأميركي الأسود ديك غريغوري يقول إنه لو تسنى ذلك للأفرو أميركيين، لاقترعوا لجون كيندي ثلاث مرات. ولو كنت عضواً في جائزة مصطفى وعلي أمين، لكنت لا أزال أقترع لسناء البيسي حتى الآن. كل كاتب له متذوقوه ومعجبوه ومن يخالفونه، أحياناً بسبب سياسته، وأحياناً بسبب اهتماماته، وأحياناً بسبب أسلوبه، وأحياناً بسبب المنبر الذي يطل منه. ولست أعرف كاتباً يحقق مثل هذا الإجماع حوله مثل سيدتي وأستاذتي ومولاتي سناء البيسي. وأقول مولاتي هنا كما ترد في غنائيات أحمد شوقي، بلهجة ووقع الولاء الذي لا يناقش. فمنذ أن بدأت قراءة سناء البيسي، لم أقع مرة على وهن أو ملل أو تكرار أو هبوط أو انهزام. منذ السطر الأول تشدك من يدك كأنك طفل. وتدهشك من سطر إلى سطر كأنك في جولة على عالم ديزني. كل باب جديد ومفرح. تحب ما هو حقيقي وتطرب لما هو خلف الحقيقة. ويحدث لك دائماً في نهاية المقال المستطرد، ما يحدث لك نهاية الجولة في «ديزني لاند»: ألم يكن ممكناً أن تمتد الجولة أكثر؟ ربما كان المقال الأسبوعي هو الأنسب للأستاذة سناء: بحر لا يسعه عمود يومي وسباق من فوق الحواجز. ثم إنها أعطت هذا المقال الأسبوعي أفقه وشخصيته وخاصيته. قلم يصور الآخرين، وريشة…
الأربعاء ٠٤ مارس ٢٠٢٠
في حمأة النوازل النازلة فتكاً بلبنان من اقتصاد منهار ونقد منكسر وبطالة مُدَمِرة وثقة عربية معدومة وأوبئة كاسرة، جاءك الغيث، إذا الغيث همى، من باريس. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلّق على صدر الكاتب أمين معلوف، ثاني أعلى وسام في تقاليد الجمهورية. إلى الآن أعطت فرنسا هذا الفتى الأغرّ كل ما لديها من شهادات المكرمين الكبار: مقعداً في الأكاديمية. (مجمّع الخالدين) وأعلى جائزة أدبية «غونكور» وجوقة الشرف. وأخيراً حرص الرئيس أن يعلّق الوسام بنفسه، معانقاً هذا الروائي المؤرخ الناقد ومؤلف الأوبرا في عاصمتها في النمسا، سالزبورغ، مدينة «صوت الموسيقى» والكولونيل فون تراب. يريد ماكرون القول إن هذا وجه لبنان الحقيقي، وليس البلد الذي يُلحِق وزارة الثقافة بوزارة الزراعة. إنه البلد الذي أرسل إلى فرنسا كبار المسرحيين والشعراء والأساتذة، وفي المئوية الثانية للثورة الفرنسية كانت راقصة الحفل فتاة من لبنان. صحيح أن فرنسا أرسلت إلى لبنان أولى جامعاته وأول كلية طب وأسست جيشه وأقامت أول معهد موسيقي، لكن هو أيضاً لم يقصّر. لقد أصبح جوهرة التاج في الفرانكفونية الدولية، ينافس مصر وأثر الحملة النابليونية. ولكن هل أمين معلوف مجرّد قيمة أدبية عالية؟ مفكر عالٍ ومثقف شغوف؟ لا. أعتقد أن قيمة أمين معلوف في الأدب العالمي والفرنسي هي تلك الروح الصافية، السامية، في أعماله كلّها. الإنسان في رواياته أو أبحاثه أو كتبه التاريخية…