توفيق السيف
توفيق السيف
كاتب ومفكر سعودي

اليوم الوطني… قصة مدينة

الأربعاء ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٠

أرى في صديقي الأستاذ فرحان الشمري، نموذجاً صادقاً للسعودية الجديدة، التي تتحرَّك بخطى واثقة، نحو حداثة لا تُنكر الماضي ولا تخجل منه. يعيش فرحان في مدينة الجبيل الصناعية، حيث يتعامل يومياً مع سعوديين من مناطق مختلفة، ومع وافدين جاءوا من كل بلد تقريباً على امتداد الكرة الأرضية. في الجبيل لا يرى هذا الصديق الأغنام التي كانت محور انشغالاته في الماضي، بل يرى المصانع والمحركات وتمظهرات التقنية الحديثة. تنوع البشر الذين يراهم كلَّ يوم، يدعوه للتفكير في مكانه وسط مدينة من هذا النوع، والمحركات التي يسمع ضجيجها كل يوم تدعوه للتأمل في نمط اقتصاد على هذه الشاكلة. إذا رأيت فرحان للمرة الأولى، فسوف يشدُّ انتباهَك ذقنُه الطويل الأشيب، الذي يظنُّه الناظر علامة على التمسك بتقاليد السلف وعاداتهم ومظهرهم. والحق أنَّ الشمري يحمل هوية مركبة، فهو بدوي - حضري، سلفي - متجدد، يحترم التقاليد، لكنه يعيش ويفكر في سياق أقرب إلى الحداثة. لم ينسَ ذكريات القرية الواقعة على حافة الصحراء. لكنَّه أيضاً لا يرغب في العودة إلى نمط العيش الذي كان سائداً فيها. إنَّه يعيد صياغة هويته انطلاقاً من اللحظة الحاضرة. وهو يفكر في مستقبله، أي في صورته الآتية، انطلاقاً من معطيات المدينة التي يريد مواصلة العيش فيها، مع علمه بأنَّ قراراً كهذا سيؤدي بالضرورة إلى تهميش مؤقت أو دائم، للجانب القروي…

الحرية والانفلات

الأربعاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٠

يبدو لي أنَّ المجتمعات العربية بشكل عام، لا تنظر بعين الرضا إلى فكرة الحرية. لعلها تتمنَّاها، لكنَّها في الوقت عينه، تخشى عواقبَها، كما ترتاب في نوايا المؤمنين بها والداعين إليها. إنَّ السببَ الأبرز للارتياب في الحرية، هو القلق من الانفلات الاجتماعي. حين يدعو شخص ما لاحترام قيمة الحرية أو ضمانها لكل الناس، فإنَّ قليلاً من الناس سيناقشه في فوائد الحرية وأضرارها كقيمة قائمة بذاتها. أما أكثر الناس فسوف يردُّ عليه بالقول مثلاً: ولكن إقرار الحرية سيزيد من التمرد على التقاليد، وسوف يشجع الفتيات والفتيان على التمرد على الآداب العامة، وربما تجدهم في الأسواق والمتنزهات بملابس غير لائقة، وقد يكرر الكذبة التي شاعت في السنوات الماضية: «هم لا يريدون حرية المرأة، بل حرية الوصول إليها». وقد تسمع أيضاً من يقول: ومن يضمن أنَّ الحرية لن تمنح فرصة للمرتد عن الدين، وداعية التطبيع مع العدو، أو المحرض على الإرهاب، كي يعلنوا آراءهم في المجال العام، فيتمكنوا من استقطاب مناصرين لمبادئهم. وهذا يؤدي في نهاية المطاف، إلى توسيع شريحة المنحرفين عن الطريق المستقيمة. أقول إنَّ هذا ما يقال في الغالب. وهو يكشف عن حقيقة مؤلمة، فحواها أنَّ غالبية العرب لا يفكرون في الحرية كموضوع قائم بذاته، أو كقيمة سامية هي السر الأعظم في ازدهار العلم وارتقاء الإنسان الفرد، وتقدم المجتمعات الإنسانية ككل. بدلاً…

مسارات للتفكير في تحولات العالم بعد الوباء

الأربعاء ٠٦ مايو ٢٠٢٠

معظم الخبراء في مختلف التخصُّصات، واثقون بأن العالم مقبل على تحولات عميقة وواسعة بعدما يتلاشى وباء «كورونا»، وتزول آثاره. السؤال عن صورة العالم في الأعوام المقبلة، بات الشغل الشاغل للعلماء والمحللين في العالم كله. وتنشر الصحافة الدولية، كلَّ يوم تقريباً، تصوراتٍ أوليةً حول مسارات التحول المنتظر، مما يكشف عن حيوية النقاش الجاري في هذا السياق. سوف أقترح اليوم أربعةَ مسارات للتفكير في التحولات المتوقعة: المسار الأول: يتناول طبيعة التحولات، التي قد تكون تراكمية تدريجية، أو تكون باراديمية - نسقية. في النوع الأول يقوم المجتمع بتجديد بنياته القائمة وتطويرها. ومن هنا فإن الجديد محكوم بمنطق البنيات القائمة فعلاً. أما النوع الثاني فهو عبارة عن عملية إحلال، تتضمن إلغاء البنيات القديمة، وإقامة بنيات جديدة، متباينة غالباً مع نظيرتها القديمة. المسار الثاني: يتناول انعكاسات التحول. فحين يبدأ، سواء كان نسقياً أو تراكمياً، فإنَّ أولى علاماته تظهر على العناصر الضعيفة، العاجزة عن مقاومة رياح التغيير. وهذه قد تطال السوق والثقافة والقيم المعيارية والعائلة والقوى الاجتماعية ومراكز النفوذ. ومع انهيار هذه، ينطلق «الدومينو» أي سلسلة الانهيارات المتوالية. نستطيع القول إن هذا المسار قد بدأ فعلاً. شركة الطيران البريطانية «فلاي بي» أعلنت إفلاسها. ولحقتها «فيرجين أستراليا» للطيران. وثمة خوف على مصير مماثل ينتظر شقيقتها «فيرجين أتلانتيك». وفي بريطانيا، أعلنت «بريمارك»، شركة الملابس الاقتصادية، إغلاق 189 من…

«الغول» أخطر ما يواجه البشرية بعد تلاشي الوباء

الأربعاء ٢٢ أبريل ٢٠٢٠

أبدأ من مقالي السيدين جون ميكليثويت وأدريان ولدريدج في هذه الصحيفة يوم الاثنين المنصرم، واللذين بدآ بفرضية أن الاستجابة لتحدي وباء «كورونا» كانت فوضوية في معظم الدول الغربية. وهذا يرجع في تقدير الكاتبين إلى ترهل الإدارة الحكومية، قياساً إلى نظيرتها في الدول ذات النظام المركزي، مثل الصين وتايوان. استخدم الكاتبان إرجاعاً في غاية الذكاء إلى توماس هوبز، لتقديم غريزة «الخوف على الوجود» كأرضية للمقالين. في 1651 نشر هوبز كتابه «لفياثان» الذي يعد لبنة أولى في فلسفة الدولة الحديثة. و«اللفياثان» حيوان خيالي، ذكر في التوراة أنه كان يبتلع البشر والمراكب في أعالي البحار، واستخدمه هوبز كرمز لقلق الوجود الكامن في أعماق النفس البشرية، تماماً مثلما نتحدث أحياناً عن الجن والتنين والغول، وكلها كائنات أسطورية ليس لها وجود واقعي، لكنها محرك نشط لمشاعر الخوف في أعماق البشر. رأى هوبز أن أي مجتمع يحتاج إلى «غول» كبير ومخيف، يردع الناس عن العدوان على بعضهم. وهذه فكرة استعارها من أرسطو الذي برر التزام الناس القانون، بخوفهم من العقاب، وليس حبهم للفضيلة. الخوف من الدولة/ الغول هو الذي يحمي الناس من أشكال الخوف الصغرى، كعدوان جارهم على أشخاصهم وأملاكهم. إذا لم يكن ثمة لفياثان/ غول، فلعلي أقتل جاري، وسيضطر الجار للتسلح كي يحمي نفسه. وهكذا يتحول المجتمع إلى ظرف حياة متوحشة تسود فيها «حرب الجميع…

ما بعد «كورونا»… عبودية جديدة؟

الأربعاء ٠١ أبريل ٢٠٢٠

سأذكّر القراءَ بصورتين، لعلَّ غالبيتهم قد صادف إحداهما هذه الأيام. الصورة الأولى لطائرة صغيرة مسيرة (درون) تقترب من سيدة في أحد شوارع ووهان، المدينة الصينية التي كانت بؤرة فيروس كورونا، وثمة تعليق يفيد بأنَّ الطائرة أَمَرَتِ السيدة بارتداء الكمامة والعودة للبيت. أمَّا الصورة الأخرى فهي لعربة مسيرة (روبوت) في العاصمة التونسية، تقترب من سيدة أيضاً، لتأمرها بالرجوع للبيت. في كلتا الصورتين، شعر المشاهدون - أو معظمهم - بقدر من الضيق؛ لما لاحظوه من فزع على وجهَي السيدتين. وظننت أنَّنا ما كنا سنشعر بالضيق، ولعلَّ السيدتين ما كانتا ستشعران بالفزع، لو أنَّ الذي تحدَّث معهما رجل شرطة اعتيادي. لكن أنْ توقفك آلة وتصدر إليك أوامرَ، فهذا يولد خوفاً شديداً في نفس الإنسان يصعب احتماله، ولا سيما في ظروف الأزمة. في الحادثتين حمولة رمزية ضخمة، تشير إلى أحد المخاوف الكبرى التي تنتاب المحللين، إزاء ما سيتلو انحسار وباء كورونا. كنت قد ذكرت في مقال الأسبوع الماضي، أن شعور بعض الناس بنجاح النموذج الصيني في التعامل مع أزمة الوباء، ربما ينصرف إلى تجميل صورة الحكومات المركزية والشمولية، حيث الانضباط والإنتاجية مقدمة في القيمة على الإنسان وحقوقه، كما في الصين المعاصرة. ونقلت أيضاً رأي خبراء قلقين من أنَّ الوباء سيبرر منح النخب السياسية سلطاتٍ أوسعَ من المعتاد، وأنَّ تلك النخب ستتمسك بالسلطات الجديدة حتى…

كيف نتخيل العالم بعد وباء «كورونا»؟

الأربعاء ٢٥ مارس ٢٠٢٠

مجلة العلوم السياسية المعروفة «فورين بوليسي» وجَّهتِ السؤالَ التاليَ إلى 12 من خبراء العلاقات الدولية: - كيف سيكونُ العالمُ بعدمَا يزولُ وباءُ كورونا - 19؟ سينتهي هذا الزلزال خلال أسابيع. لكنَّنا سنواجه سلسلة هزات ارتدادية. فهل لدينا معرفة ولو أولية بطبيعة هذه الهزات، وتأثيرها على السياسة الدولية والاقتصاد وموازين القوى؟ في السطور التالية تلخيص لبعض تلك الآراء. وهي نموذج لاتجاهات التفكير في عالم السياسة، في حقبة ما بعد كورونا. الضحية الأولى للوباء هي فكرة العولمة، التي أخفقت في تقديم بديل فعال عن السياسات القطرية ضيقة الأفق. ويتوقَّع ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، أن تتفاقم مركزية الدولة والمشاعر الوطنية. سوف يبرّر الوباء لكافة حكومات العالم تبنّي سياسات طارئة لإدارة الأزمة، تركّز على الحاجات المحلية وتغفل المسؤوليات الدولية. وستحصل النخب الحاكمة على سلطات جديدة تتجاوز ما حازته في الماضي. وحين تنتهي الأزمة فإنَّ كثيرين سيكرهون على التخلي عن هذه السلطات. يشير والت أيضاً إلى صعود محتمل للنموذج الصيني. سيعتقد الناس أنَّه أكفأ في إدارة الأزمات الناتجة عن الوباء. وهذا سيعزز الموقف الصيني حين تناقش قابليات الصين ومنافسيها في إنتاج الحلول الذكية. شيفشانكار مينون، المستشار السابق للأمن القومي في الهند، يعارض رأي البروفسور والت. فهو يرى أنَّ إدارة الصينيين لأزمة الوباء لم تكن الأفضل، بل إدارة تايوان وكوريا الجنوبية. إنَّ الشعبوية…

تحكيم القانون وليس التعويل على الأخلاق

الأربعاء ١٢ فبراير ٢٠٢٠

وفقاً لرأي الدكتور إبراهيم البعيز، فإنَّ التوجيهَ الأخلاقي – رغم ضرورته – ليس علاجاً كافياً للانحرافات السلوكية والمشكلات التي تلازم الحياة المدينيَّة. وكان البعيز، وهو أستاذ جامعي مهتم بقضايا التربية والإعلام، يتحدَّثُ أمام منتدى التنمية المنعقد في الكويت، حول الدور المحوري للقانون كضابطٍ للحياة المدينية التي تزداد عمقاً وتعقيداً. إنَّنا نسمع من الإرشادات والمواعظ الشيءَ الكثير، وبشكل شبه يومي. وإذا كنت سعودياً تجاوز الثلاثين من العمر، فالمؤكد أنَّك حصلت على نحو 2000 ساعة من التعليم الديني. وهذا قدر يكفي لجعلك متخصصاً في علم الدين. لكنِّي أجد - ولعلكم مثلي - أنَّ التخصصَ العلمي شيءٌ والتعاملَ الأخلاقي شيءٌ آخرُ. يود الناس بطبيعة الحال المطابقة بين المعرفة الدينية والأخلاق الرفيعة. لكن هذا مجرد افتراض. إن معايير السلوك (في جانبها التطبيقي خصوصاً) مستمدة من العرف. وغرضها تسويغ التعاملات الاجتماعية. ولذا؛ فهي تصعد أو تهبط، تبعاً لتحولات الحياة الاجتماعية: ما يستنكر بالأمس ربما يقبل اليوم، وما يرحب به اليوم قد يستنكر غداً، وهكذا. ارتباط الأخلاقيات بالعرف قد يصل إلى حد التعارض مع تعاليم الدين، التي يجري التأكيد عليها كل يوم. من ذلك مثلاً إحسان التعامل مع الأجير والفقير والضعيف. ومنه إفشاء السلام وإيثار الآخر والإحسان، ومنه الرحمة والعطف، ومنه المبادرة بإقرار الحقوق المالية والمعنوية لأصحابها، وعدم السكوت عنها، فضلاً عن إنكارها أو الحط من…

هكذا تحدث محمد شحرور

الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠١٩

ينتمي الدكتور محمد شحرور إلى طائفة من المفكرين، الذين لا يرون أنفسهم مديِّنين لأعراف المؤسسة الدينية التقليدية أو قيمها. وهو لا يرى نفسه مديناً لرواة الحديث ولا للفقهاء والمفسرين، ولا لمنهجهم في قراءة النص الديني واستنباط الشرائع. بل إنه لا يكتم إنكاره للقيم والقواعد التي يجلونها أيَّما إجلال. يعمل شحرور على أرضية فلسفية ومنطق استدلال مختلف. ولهذا؛ فليس ممكناً أن يبلغ النتائج ذاتها المتعارفة في المدرسة الدينية التقليدية. في السطور التالية بعض أبرز العناصر التي تميز منهجه عن نظيره المتعارف في هذه المدرسة: أولاً: يتعامل شحرور مع الدين كبرنامج بحث مفتوح لكل الأجيال. يفهم الخطاب القرآني على ضوء توسع الإنسان في فهم «كلمات الله» أي قانون الطبيعة. ولذا؛ سيكون لكل جيل تفسيره الخاص المرتبط بما يستجد من معارف. إن تفسير القرآن في زمن، يعكس بالضرورة المعارف المتوافرة في ذلك الزمن. لا يتعلق الأمر بالمحتوى اللغوي، بل باستيعاب الرابطة العميقة بين الخطاب الرباني وقانون الطبيعة. يتعارض هذا التأسيس مع المنطق الداخلي للمدرسة التقليدية في جانبين مهمين: أ- اعتبار رأي الأسلاف مرجعياً مقدماً على رأي المعاصرين؛ لأنهم أقرب لزمن الوحي. ب- التعامل مع تفسير القرآن كمعالجة للتركيب اللغوي والفني في النص. ثانياً: ما سبق يعني أيضاً أن جانباً من المنظومة الدينية اجتهاد بشري بحت. فهي ليست بكاملها سماوية (وفق ما يصوره الخطباء…

صراع حدود أم صراع وجود؟

الخميس ١٢ ديسمبر ٢٠١٩

أرى أن غالبية المسلمين سيحبون الفكرة التي نادى بها روجيه جارودي، فكرة الإسلام المفتوح، الذي يحتمل كل الناس وكل الأفكار، وعلى الخصوص أولئك العلماء والفلاسفة والمصلحون والمخترعون، الذين ساهموا في صناعة تاريخ البشرية أو تقدم المجتمع الإنساني، بنحو من الأنحاء. الفكرة بذاتها جذابة ومثيرة للاهتمام، فهي تحاكي توقاً عميقاً في أنفس البشر لرؤية تجسيدات الخير مجتمعة متعاضدة. يعتقد كل إنسان أنه وسائر البشر الآخرين، أميل إلى فعل الخير، وأنهم قادرون على ابتكار الأفعال التي تجسد الخير وتنميّه. ولهذا لا يرون عيباً حين يضعون أيديهم بأيدي غيرهم الذين على ملتهم أو على سواها. لا يتوقف عامة الناس عند اختلافاتهم العقدية أو الثقافية. أنت ترى آلافاً من الناس يأتون إلى الأسواق كي يبيعوا أو يشتروا، فلا يسأل أحد منهم عن معتقد الآخر أو انتمائه الاجتماعي، كما لا يسألون عن صانع السلعة. لكن هذا ليس نهاية القصة. ولا ينبغي أخذ الأمور بهذا التبسيط. دعنا نمثل بحال الولايات المتحدة، التي تألفت عند تأسيسها من مهاجرين، وما زالت تدين لمهاجرين قدامى وجدد بازدهارها العلمي والاقتصادي. مع ذلك؛ فإن الشعارات التي أوصلت الرئيس الحالي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، هي الشعارات الداعية إلى وقف الهجرة وإبعاد ما أمكن من المهاجرين. كذلك الحال في أوروبا التي يتفاقم فيها التيار السياسي المعادي للمهاجرين، رغم حاجتها الماسة إليهم كأيدٍ…

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الأولي للبشر

الأربعاء ٠٦ نوفمبر ٢٠١٩

مقال الأسبوع الماضي الذي تعرض للاختلاف التاريخي حول الطبع الأولي للإنسان، أثار جدلاً غير قليل. ثمة قراء رأوا أن الخير هو الطبع الأصلي للإنسان، وثمة من قال بالرأي المعاكس. هذا الجدل لفت انتباهي إلى مسألة متصلة بنقاش آخر يدور في بلدنا، منذ صدور «لائحة الذوق العام» أواخر الشهر الماضي. وتضمنت اللائحة عقوبات مالية على سلوكيات غير لائقة عرفياً، لكنها لم تصنف في الماضي جُنحاً أو جنايات. بيان المسألة على النحو الآتي: نفترض أن العقوبات التي يضعها القانون – أي قانون، وأي عقوبة - غرضها ردع الأفراد عن القيام بالفعل المحظور. يهمني الإشارة هنا إلى أن بعض العقوبات في التاريخ القديم كانت تستهدف الانتقام من الجاني، كما أن البعض الآخر استهدف تمويل خزينة الحاكم. لكن هذه العقوبات لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر. خلاصة القول، إن العقوبات التي يعرفها عالم اليوم، غرضها - في الأعم الأغلب - هو الردع، وفي نهاية المطاف تقليص الخروج عن القانون أو العرف إلى أدنى مستوى ممكن. حسناً... ما هو معنى «الردع»؟ أي ما هي طبيعة الانعكاس إلى تحدثه العقوبة في نفس الإنسان، بحيث يمتنع عن الفعل المحدد؟ أعلم أن بعض القراء سيقولون في أنفسهم: هذا كلام زائد لا خير فيه؛ لأننا في نهاية المطاف نتحدث عن «امتناع الفرد عن فعل بعينه» وهذا ما يحدثه الإعلان…

مجادلة أخرى حول الميول العُنفيَّة

الأربعاء ٣٠ أكتوبر ٢٠١٩

ما كتبته وكتبه زملاء آخرون حول الميل للعنف في الشخصية العربية، لا يستهدف إدانةَ الثقافة العربية، بل تحليل ظاهرة، من دون ادعاء أنه منزه عن الخطأ. يهمني تأكيد هذه النقطة، لأنَّ بعض القراء الأعزاء بذل جهداً مضنياً في بيان أن البشر كلهم ميالون للعنف، وأن الأوروبيين فاقوا العرب في هذا، وأن عنف العربي كان في الغالب رد فعل على عدوان أعدائه... إلخ. وأريد استثمار المناسبة للفت الأنظار إلى ما أظنه مشكلة عامة في التداول الثقافي، تتجلَّى في الانزلاق السريع من المناقشة النقدية (وهي الطريق الطبيعية لتطور الثقافة) إلى التبجيل أو الاعتذار والتبرير. ولا ينفرد المجتمع العربي بهذا النهج، فهو معروف في كل مكان تقريباً، وقد أطلق عليه في الولايات المتحدة، في وقت سابق، اسم «الماذا - عنية Whataboutism». ويراد به التنديد بالناقدين الذين يغفلون سياق الموضوع، ويركزون على مجادلة شخص الكاتب، أو إثارة نقاط غير ذات صلة. وأحتمل أن التسمية تستبطن نوعاً من السخرية. وقد استعملت أيضاً في سياق الإنكار على السياسيين والكتاب الذين يخدمون أجندات سياسية. ولعل الرئيس الأميركي ترمب هو أحدث من قيل إنه «Whataboutist» أي أنه يتبنَّى نهج «الماذا - عنية» كما يظهر في نقاشاته وخطبه، لاسيما حين يدافع عن نفسه أو سياساته. وبعض الموارد المتصلة بهذا مذكور في مواقع متعددة. زبدة القول إنه ليس من الفطنة…

في معنى التعامل مع تحديات العصر

الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٩

بعض الناس غير واثقٍ بقدرة الإسلام على التعامل مع تحديات العصر الجديد. لهذا يتساءل بصيغة: «هل يستطيع الإسلام؟». آخرون يعتقدون أن الإسلامَ قادرٌ (أو ينبغي أن يكون قادراً)، ولهذا فإن سؤالَهم يأتي في صيغة: «كيف يستطيعُ الإسلام؟». والذي يتراءَى لي أن كلا السؤالين معقول، بل قد يكون ضرورياً. كل فكرة تدعو الناس إلى اتباعها، فإن للناس حقاً مشروعاً في أن يتساءلوا عنها، وأن يشككوا فيها، وأنْ يطلبوا البرهان على سلامتها، قبل وبعد أن يتَّبعوها. من ناحية أخرى فإنَّ أي نظام فكري أو قانوني، يحتاج إلى مراجعة بين زمن وآخر، للتحقق من قدرة عناصره على تحقيق الغايات التي يفترض أن تنتج عن تطبيقها أو الالتزام بمقتضياتها. نعرف أنَّ لكل جزءٍ من أجزاء الدين وظيفةً أو غايةً يُبتغى بلوغها. قد نتحدث عن الإيمان والعبادة فنقول إن غرضهما تعميق صلة الإنسان بربه. ونتحدث عن الشريعة (القانون) فنقول إن غرضها تحسين مستوى معيشة البشر، أو نتحدث عن القرآن فنقول إن غرضه إثارة العقول ودفعها للتفكر في الخلائق، ما هو مشهود وما هو غيب، معانيها وسبل كشفها والسنن الناظمة لها، والصلات القائمة بين أجزائها وعناصرها. قد يحصل أحياناً أن تتلاشى فاعلية أحد الأجزاء المذكورة، فتنقطع صلته بموضوعه. فنقول إن هذا الجزء قد تخلف عن زمنه. دعنا نأخذ على سبيل المثال عقوبة القتل، التي تطبق باعتبارها…