بدر الراشد
بدر الراشد
كاتب سعودي

أسطورة «محافَظة» المجتمع السعودي

آراء

غالباً ما يتم اعتبار أن المجتمع السعودي «مجتمعاً محافظا» أمراً مسلَّماً به. ومع غياب الدراسات الاجتماعية التي تبحث في هذه المسألة، يبقيها مجرد فرضية قابلة للأخذ والرد، ويمكن النقاش حولها باستمرار وبطرق مختلفة، من دون جزم في المسألة.

يُستشَهد كثيراً بالممانعة لتعليم البنات، ثم ممانعة تأسيس التلفزيون والإذاعة…، وحوادث أخرى كان الصوت المحافظ الرافض للتغيير هو الأعلى صوتاً والأكثر ضجيجاً من أجل إثبات هذه المسلَّمة.

اعتبار المجتمع السعودي محافظا، بحاجة إلى الكثير من التمحيص، وأزعم بأنه بالإمكان إبطال هذه الفرضية من خلال مقارنة هذه الأحداث، التي تُستخدَم أحداثاً رمزية تدل على محافظة المجتمع، بأحداث أخرى تدل على أنه مجتمع لا يختلف عن غيره من المجتمعات، من ناحية التنوع والتأرجح بين المحافظة والانفتاح.

هناك مفاهيم متداخلة عدة يُتعامَل معها مترادفات أحياناً، وأعني المحافظة والتدين والتقليدية، بينما لا يمكن استخدامها على مستوى واحد. لا بد من التفريق بداية بين المحافظة الاجتماعية وبين التدين، فإن كان التدين والمحافظة الاجتماعية متلازمين في كثير من المجتمعات، فالأمر لا يبدو على هذا الصورة في المجتمع السعودي. يمكن القول – بكيفية ما – أن المجتمع السعودي مجتمع متدين، بمعنى أن القيم الدينية تؤثر في الأفراد بصورة كبيرة، إما عن تعلم ودراية واختيار وبحث، وهنا يكون الشخص المتدين مختاراً ومؤدياً للفروض والواجبات الدينية…، أو في شكل إيماني متوارث، أي التعامل مع القيم الدينية بعد اندماجها في منظومة المجتمع القيمية، أي عاداته وتقاليده بتعبير آخر. وفي هذه الحال لا يكون الفرد بالضرورة مؤدياً للفروض والواجبات الدينية، وإن كانت القيم الدينية تؤثر في طريقة تفكيرة وبعض سلوكياته.

يمكن الجدل بأن المجتمع السعودي متدين، باعتبار المنطق الديني حاكماً لأكثر أفراده، لكن التدين هنا لا يساوي «المحافظة». وأعني بالمحافظة هنا رفض التغيير، وممانعة أي تحديث على مستوى مؤسسات الدولة، الحياة الاجتماعية، والثقافة…، أي المحافظ باعتباره الحامي للوضع القائم اجتماعياً وسياسياً وثقافياً.

التدين في السعودية متفاوت، أي أن أفراد المجتمع السعودي يمتلكون تصورات مختلفة وفهم مختلف للدين والتدين، إما لعوامل تاريخية، باعتبار تنوعات المذاهب والمدارس الفقهية بين الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية…، التي قل تأثيرها حالياً. أو لعوامل حديثة، باعتبار أن تنوع الحركات الدينية «حركات الإسلام السياسي»، إضافة إلى السلفيات التقليدية والرؤية العقلانية والتأويلات الفردانية. كل هذا التنوع يجعل الحديث عن التدين مرادفاً للمحافظ محض خلط. فهناك المتدين المنفتح والمحافظ والثوري والوسطي -بالمعنى السياسي-، وغيرها.

حركات الإسلامي السياسي حركات حديثة كلية من ناحية الأهداف والتنظيم والبنية. من ناحية أخرى، السلفيات التقليدية ليست محافظة كلية.، فالتقليدية أيضاً لا تساوي المحافظة، فالفقه التقليدي الحنبلي يمكن استخدامه لتسهيل وتبرير معاملات مالية حديثة، فهنا الفقه أصبح وسيلة للتحديث، لا حارس للماضي، وبالتأكيد الأمر هنا يعتمد على الفقيه ذاته واستخدامه للأدوات الفقهية والسياق المؤسساتي…، لكن أتحدث هنا عن إمكانات المدرسة، إضافة إلى أن بعض هذه السلفيات أنتجت نماذج ثورية راديكالية تنزع إلى تغيير الوضع القائم باستخدام السلاح. وهذا عكس المحافظة تماماً. لذا يصعب اعتبار التقليدية والمحافظة شيئاً واحداً.

إذا كانت المحافظة لا تعني التدين ولا التقليدية فالمجتمع السعودي لا يعتبر مجتمعاً محافظاً، بل هو كأي المجتمعات يحمل بين ظهرانيه المحافظ والمنفتح وكل التنوعات بينهما.

لو أردنا تطبيق نموذج روجر إيفرت حول انتشار المبتكرات الحديثة، التي تقسم المجتمع إلى مبتكرين وقادة رأي أو مبادرين، ثم تتبعها تقسيمات أخرى كالغالبية المبادرة، والغالبية المتأخرة، وغيرها، حتى الوصول إلى من يرفض التغيير بالمطلق ومن يصعب التأثير فيه لتبني تقنيات حديثة. سنجد أن هذه النظرية كما تستخدم في التسويق، وتفسير كيفية انتشار الاختراعات الحديثة في المجتمعات، يمكن استعارتها لقياس مسألة المحافظة والانفتاح في المجتمع.

من انتشار أجهزة الهواتف الذكية في المجتمع، مروراً بإقبال السعوديات على العمل في القطاع الخاص، وحتى الازدحام على برنامج الابتعاث في الخارج، كلها أمثلة تثبت باستمرار أن المجتمع السعودي لا يرفض التجديد والتغيير عندما يقتنع بالحاجة إليه وأهميته. فبينما كان هناك تخوف من برنامج الابتعاث بالبدايات (مع سفر الآلاف)، إلا أن هذا الوضع تغير اليوم بعد قرابة عشرة أعوام من المشروع وسفر عشرات الألوف، حتى لا تكاد تجد عائلة سعودية من دون قريب أو قريبة في الخارج للدراسة. هنا يتردد المجتمع في تبني الجديد كما يحدث في أي مجتمع، يبادر أفراد منه، ثم بعد أن يرى بقية أفراد المجتمع نتائجه ويقتنعون بها، يصبح «موضة» أو صيحة سائدة يتم التطبيع معها كلية.

ربما ما يحدث في المجتمع السعودي -وهو ما يحدث في أي مجتمع آخر- أن الصوت المحافظ مرتفع. من يقرأ ويستمع إلى اليمين المحافظ الأميركي يعتقد بأنه يمثل كل الأمة الأميركية، لكن نتائج الانتخابات تظهر أن المحافظين مجرد شريحة من الشعب الأميركي لا تمثل غالبية أو أكثرية لا سياسية ولا اجتماعياً. بالسياق ذاته يمكن الحديث عن السعوديين، فالمجتمع السعودي كأي مجتمع يحفل بشرائح اجتماعية مختلفة، لكن طبيعة الشريحة المحافظة خوفها من التغيير وممانعتها له وتماسكها يظهرها شريحةً واسعة قوية، بينما هذا لا يعكس بأي حال من الأحوال مدى تغلغلها في المجتمع، بقدر ما يعكس تنظيمها وتحالف أفرادها من أجل نشر أفكارهم ورؤاهم في المجتمع، وهو ما يعتبر حقاً للجميع ما دام لا يُسنَد بسلطة قهرية.

المصدر: الحياة