أين أصبح النموذج التركي؟

آراء

يتساءل مثقفون أتراك، وهم يتابعون قمع الحريات في بلادهم: إلى أين يقودنا أردوغان؟ ويتساءل مثقفون عرب، بعد محاولات أردوغان العودة إلى عصر الاستبداد العثماني: أين أصبح النموذج التركي الذي أثبت أن الإسلام لا يتناقض مع الديموقراطية، ودعوا إلى تمثله في بلادنا؟
هذه الأسئلة عن مسيرة الرئيس التركي وحزب “العدالة والتنمية”، أساسها في الدرجة الأولى انفتاح أنقرة على محيطها، خلال سنوات ما قبل “الربيع العربي”، عندما طرح الحزب ومنظّره أحمد داود أوغلو، نظرية انفتاح البحار الأربعة بدلاً من أحادية التوجه إلى أوروبا، أي الانفتاح على الدول المشاطئة للمتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود والمحيط، من دون التخلي عن الغرب. النظرية مبنية على أسس تاريخية معروفة، فقد كانت هذه البحار مفتوحة على بعضها في عهود الإمبراطوريات التي أنتجت حضارات عظيمة ما زلنا نلمس تأثيرها في السياسة والأدب والعلوم حتى يومنا الحاضر. وتطورت سياسات الدول التي كانت في كنف هذه الإمبراطوريات من أنظمة الرق والعبودية والاستبداد إلى ديموقراطيات مزدهرة. استبشر مؤيدو هذه النظرية خيراً عندما وضع أردوغان حداً لتدخل الجيش في السياسة، وأسس مع أكثر من دولة عربية مجالس عليا تخطط لاستثمار هذا الانفتاح (تبين في ما بعد أنها كانت واجهة للهيمنة). وعندما راح ينتقد السياسة الإسرائيلية ويطالب بالعدالة للفلسطينيين.
لكن ما إن أطل “الربيع العربي” حتى اندثرت كل هذه الأحلام. بدل الانفتاح على المحيط واحترام سيادة الدول بدأ أردوغان محاولاته لتعيين “ولاة” في البلدان التي ضربها “الربيع”. دعم “الإخوان” في تونس ممثلين بحركة “النهضة” في مواجهة الأحزاب الأخرى المشاركة في الانتفاضة على حكم بن علي. أصر على دعم الرئيس المصري محمد مرسي لأنه “إخواني”، على رغم ثورة الشعب عليه. استمر في السماح بتدفق السلاح والمسلحين إلى سورية، ورفض سحب جيشه من العراق، مصراً على المشاركة في تحرير الموصل، ما أثار مخاوف العراقيين من سعيه إلى إحياء الطموح التركي القديم بضمها إلى بلاده. وها هو اليوم يبتز الاتحاد الأوروبي بالهاربين من الاستبداد ومن المنظمات الإرهابية في بلدانهم، ويهدد بفتح الحدود أمام مئات الألوف منهم، بعدما لمس ضعف الأوروبيين أمام هذه الظاهرة التي أعادت الخوف من الآخر إلى القارة العتيقة، ما أتاح للأحزاب المتطرفة العودة بقوة إلى المسرح السياسي.
هذا بعض من سياسة أردوغان على المستوى الخارجي. أما في الداخل، فخاب ظن اليسار واليمين والأكراد فيه، فقد أثبت أن إبعاده الجيش عن السياسة لم يكن في سبيل إرساء المزيد من الديموقراطية، وأن مفاوضاته مع الأكراد قبل سنة تقريباً لم يكن هدفها إعطاءهم حقوقهم الطبيعية، بل محاولة استرضائهم والحصول على تأييدهم في استفتاء ينوي إجراءه ليصبح النظام في تركيا رئاسياً، ما يتيح له اتخاذ القرارات من دون العودة إلى البرلمان، وعندما فشل سمح لطائرات “إف 16” بضرب قراهم، في بادرة قد تؤدي إلى حرب أهلية. وللمزيد من التفرد بالسلطة شن حرباً على ما سماه الدولة الموازية، فأقال قادة عسكريين ومسؤولين في مؤسسات مدنية بحجة أنها خاضعة لحليفه القديم عبدالله غولن. ووسع حملته لتطاول صحافيين لا يؤيدونه، فسجن العشرات، وعين صحافيين من حزبه في صحيفة “زمان” التي عين عليها أوصياء يديرونها لمصلحته.
لم يتجنّ عليه باراك أوباما عندما وصفه بالمستبد، فقد استخدم الدين والسياسة لاستتباع الأتراك، وهذا منتهى التعسف. يقول الكواكبي الذي عاصر الدولة العثمانية: “… ويحكمون بأن بين الاستبدادين، السياسي والديني، مقارنة لا تنفك، متى وُجد أحدهما في أمة جرّ الآخر إليه، أَو متى زال زال رفيقه، وإن صلح، أي ضعف أحدهما، صلح، أي ضعف الثاني…”.
أضاع أردوغان حلم شعبه وإنجازاته، وأحلام العرب في استيراد النموذج التركي. ولكن يبقى السؤال: هل علينا أن نستورد النماذج دائماً؟ ولماذا لا تكون لنا أحلامنا الخاصة؟
المصدر: جريدة الحياة