ليس «ما بعد الحقيقة» سوى الكذب

آراء

مثلما هناك نظريات ومفاهيم لما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، هناك مفهوم «ما بعد الحقيقة». هذا المفهوم كان عنوان غلاف «ذي إيكونوميست» البريطانية الأسبوع الماضي. بعيداً من البحث في فلسفة الحقيقة والكذب كقيمتين إنسانيتين. ركزت المجلة على الكذب السياسي السائد وتصريحات المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب وتأكيده أن منافسته هيلاري كلينتون وباراك أوباما أسسا «داعش». وعلى اتهام روسيا باغتيال مسؤول بولندي تحطمت طائرته. وادعاء زعماء أتراك أن «سي آي إي» كانت وراء الانقلاب الأخير. ونجاح الحملة التي قادها سياسيون بريطانيون في إقناع الأكثرية بأن البقاء في كنف الاتحاد الأوروبي يشكل خطراً كبيراً ويتيح لعشرات الآلاف من «قطعان» المهاجرين اجتياح البلاد.

وإذا كانت أمثلة «ذي إيكونوميست» اقتصرت على بعض من كذب السياسيين في الديموقراطيات الغربية، فلدينا في العالم العربي الكثير منها، على المستويين الداخلي والخارجي. وقد دفعنا ثمن ذلك ملايين القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين، مرة باسم المُقدس ومرات باسم الحرية والاستقلال والحفاظ على الهوية أو البحث عنها وسط الدمار.

باسم الكذب المقدس تأسست دولة إسرائيل، بناء على وعد توراتي لليهود بأرض الميعاد. هذه الحقيقة «المقدسة» أسفرت عن تشريد شعب من أرضه، وعن حروب متواصلة منذ عشرات السنين. ولدينا أيضاً الكذب الصريح تبريراً لاحتلال العراق، وقد دانت لجنة تشيلكوت البريطانية رئيس الوزراء السابق توني بلير بالكذب وتضليل البرلمان والرأي العام، لكن إدانته كانت أيضاً نوعاً مما «بعد الحقيقة» لتبرئة «الإستابليشمنت» (المؤسسة الحاكمة) أمام التاريخ. أما صديقه جورج بوش فلم يتعرض لأي مساءلة، ولم يسأل أحد وزير خاجيته كولن باول الذي وقف في مجلس الأمن، حاملاً في يده زجاجة «عطر» صغيرة دليلاً على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل يجب التخلص منها، وقد اعترف بكذبته وأعلن ندمه، لكن القضاء العادل لم يعر ذلك أي اهتمام.

ولـ «ما بعد الحقيقة» مؤسسات رسمية وخاصة، ومراكز أبحاث يديرها خبراء في الكذب وتوجيه الرأي العام. يكفي أن نتذكر المحافظين الجدد و «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والمحاضرات التي يلقيها في قاعته خبراء عرب يزاودون على مضيفهم في تبسيط الصراع وحق الولايات المتحدة في غزو المتخلفين لتعليمهم القيم الأميركية ونشر الديموقراطية والحرية.

أما عن وسائل الإعلام فحدث ولا حرج. كلها ينشر كذب السياسيين، ويقدمه عبر الشاشات والصحف حقائق لا تقبل الجدل. والطريف أن من يفترض بهم الدفاع عن القيم الإنسانية، أي النخبة الثقافية والسياسية، هم أنفسهم متورطون في ترويج «ما بعد الحقيقة». وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي، مساهمة فعالة، في نشر الكذب، فالذين كانوا يتلقون الكذب عبر الصحف وشاشات التليفزيون أصبحوا هم أنفسهم مشاركين في نشره، من دون أي جهد للبحث عن الوقائع، وأصبحوا يثقون بأنفسهم أكثر من ثقتهم بمصادر الأخبار.

ليس «ما بعد الحقيقة» سوى الكذب.

المصدر: الحياة