«إكسبو 2020».. الذاكرة تنحاز إلى دبي

آراء

في المذكرات التي دونها خلال رحلاته ما بين إنجلترا وويلز، يلاحظ الكاتب الإنجليزي آرثر يونغ (1820) الشواهد الأولى للثورة الصناعية التي انطلقت شرارتها من بريطانيا وعمت أصقاع أوروبا في القرن الثامن عشر، ويحلل الروح السائدة المفعمة بالعقل الطموح آنذاك. فيقول: «إن هذه الأعمال مهما كانت طريقة تشغيلها وأسبابها ونتائجها فهي تنطوي على فوائد لا حصر لها، تسجل لحساب هذا الإنسان الألمعي النافع الذي سيحتل الجدارة أينما ذهب، لأنه سيحمل الناس على التفكير.. هو نجح حين نفض عن نفسه غبار اللامبالاة، والكسل والخنوع والبلادة.. انظروا إلى تدفق الفكر والعنفوان والجهد القوي في شتى سبل الحياة، يمكنكم أن توقنوا الآن بأن ما تفعلونه هو الصحيح».

لم يكن البخار الذي انبعث من آلة الاسكتلندي جيمس واط (1819) إعلانا عن انطلاق الثورة الصناعية فحسب، بل كانت أبخرة آلته أيضا أهزوجة شعرية تغنى بها الشعراء والاقتصاديون ومرحلة للحبور بالخطوة العظيمة التي حققتها الإنسانية: «أيتها الطليعة المتقدمة.. أفرطي في الثناء على قدرة القاطرة، أفرطي في الثناء على البخار وخطوط السكك الحديدية.. إنها بالفعل أيام مجيدة»، هكذا كان يغني إيه بومييه، وترتل المشاريع الصناعية الصاعدة بقوة معه ترانيم الألحان.

ماذا كانت تعني تلك اللحظة؟ يتساءل إريك هوبسباوم في «عصر الثورة»، قائلا إنها كانت تعني «ثورة الإنسان»، ثورته ضد الأغلال التي كانت تكبل القوة الإنتاجية للمجتمعات البشرية التي أصبحت قادرة منذ ذلك الحين على مضاعفة الناس والبضائع والخدمات على نحو مستمر لا حدود له، وهو ما يعرف فنيا في أوساط علماء الاقتصاد بـ«الانطلاق في نمو مستدام ذاتيا». ما بين 1780 – 1800 أقلعت الثورة الصناعية بكل عنفوانها مكسرة قيود الماضي، تواجه تحديات الحاضر بعقل متقد طموح للمستقبل، وكانت النتيجة في بريطانيا عام 1848 اقتصادا صناعيا فعالا يهيمن على العالم، وتوجت اللحظة بتمامها بعد ثلاث سنوات بأن أقيم في لندن ولأول مرة المعرض الدولي الشهير عام 1851 تحت عنوان «المعرض العظيم لمنتجات الصناعة من دول العالم»، وانطلقت بعد ذلك قاطرة «المعرض» تتنقل بين مدن العالم التي تجلت فيها ثورة العقل والإبداع والصناعة يحط فيها المعرض رحاله، ويستعيد أجواءه الأولى، وكأنه يقول: روح الثورة الصناعية الأولى هنا.. الطموح والشغف والتحدي والمستقبل هنا قاعدته، وهنا المعرض يقام تتويجا وامتنانا له.

اليوم بعد مرور أكثر من مائة وخمسين سنة على تلك اللحظة الأولى، حركة التاريخ تتقدم، والروح تنتقل، ومركز الإنسانية يتغير، تلك الأجواء التي سطرها المؤرخون تتجلى بكل نصاعتها في المدينة المتقدة بالأمل في منتصف الشرق، «دبي» تتقدم بكل الريادة، والتحدي.. تعاند الصعاب من حولها، تعصر تجارب النجاح السابقة، فتخلق منها تجربتها الناجحة الفريدة الخاصة، تبهر وتخطف الأبصار، فتُشد لها رحال العقول والقلوب ورؤوس الأموال، تتجاهل بقع الأرض المتناحرة المتصارعة من حولها، يريدون جرها للماضي، فتجرهم قسرا نحو المستقبل.

لحظات الثورة الصناعية الأولى التي سادت في أوروبا منتصف القرن الثامن عشر وما بعده تحضر حاليا في دبي بكل عنفوانها.. قيود العجز تتحطم، والعقل بكل ألقه يتقدم.. أعلنت ضربة المعول الأولى لحفر «خور دبي» في عام 1958 بزوغ حلم كبير ضخم ممتد عبر الأجيال، قرر رجل المدينة الأول أن يقترض أموالا ضخمة من أجل حفر الخور، وفتح المجال أمام رسو السفن الأكبر حجما.. عارضه من كانوا حوله، شككوا في هذه الخطوة الكبيرة، قالوا «لن تأتي السفن، وسوف يتبدد المال»… لكن الشيخ بعزيمته أثبت أنه على صواب، فجاءت السفن، وأبهر الحدث العالم. في مايو (أيار) 1961، كتبت صحيفة «لوموند» الفرنسية «في دبي لا يوجد نفط، ولكن يوجد حاكم، رجل ذكي بارع خطط للتغلب على نقص الموارد الطبيعية وقرر بناء مدينة مزدهرة تطل على الميناء».

توسعت مع الجيل التالي الرؤية الرامية إلى تعزيز التواصل مع العالم، وربطه ببعض، وتأسيس دبي كمركز نابض في قلبه يصله بأطرافه، فبدأ العمل على مشروع ميناء جبل علي عام 1979، في موقع جغرافي استراتيجي، على مسافة 35 كيلومترا جنوب غربي مدينة دبي، يربط حركة التجارة بين الشرق والغرب، ويصل بين الشرق الأقصى ونصف الكرة الغربي، ويقدم بوابة دخول إلى سوق عالمية يقطنها مليارا نسمة.

حمل الابن لواء حلم أبيه، بتلك الروح المتوارثة المشبعة بالطموح والعزيمة. سار قدما مع حلم والده باقتدار، فأصبحت تلك الإمارة الصغيرة محط بصر العالم، وموطن أحلام الملايين.

اليوم يحتل ميناء جبل علي في دبي المركز الثامن على قائمة موانئ الحاويات الأكثر ازدحاما في العالم، وأصبح نصيب الإمارات من إجمالي التجارة العالمية في عام 2011 نسبة 1.27 في المائة، وفقا لمصرف «إتش إس بي سي»، وهو رقم يفوق ما تحققه البرازيل أو تركيا أو تايلاند، وهي دول ذات تعداد سكاني أكبر من تعدادها بكثير. الباحث الاقتصادي أفشين مولوي يقول إن أثر الإمارات التجاري الضخم الذي يفوق حجمها يعود سببه «إلى عقود من بناء البنية التحتية التي تسمح بالتبادل التجاري، بداية من حفر خور دبي إلى إنشاء ميناء جبل علي إلى المطارات الحديثة والخدمات اللوجيستية ذات الطراز العالمي، إضافة إلى بيئة تنظيمية تسمح بالتبادل التجاري صنفها المنتدى الاقتصادي العالمي في المركز الأول في العالم العربي والمركز الـ23 على مستوى العالم، قبل الولايات المتحدة وكوريا الشمالية». ونتيجة لذلك انفتحت دبي على العالم، وانفتح العالم كله عليها، مقبلا شغفا «إنها تعتبر اليوم أكثر المناطق اتصالا وتواصلا على وجه الأرض. مدينة عالمية من القرن الحادي والعشرين، في كل 90 ثانية تقلع أو تهبط طائرة في دبي، وفي كل دقيقة تصل 100 حاوية في موانئ دبي».

وتكتب صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية معلقة على نجاح شركة طيران الإمارات «إن صعود (طيران الإمارات) غير الطريقة التي نستكشف فيها عالمنا. يمكن الآن السفر إلى دبي من ستة مطارات بريطانية، ثم الاختيار من بين 124 وجهة. كانت الشركة تمتلك طائرتين في 1985، أما الآن فتمتلك 198 طائرة، وأصبحت علامتها التجارية أغلى علامات شركات الطيران في العالم بقيمة 4.1 مليارات دولار، للسنة الثانية على التوالي».

ولكن الطريق لم يكن دائما مفروشا بالورود، إذ تعرضت دبي لأزمة اقتصادية قاسية، لكنها واجهتها بالصبر والتعاون والتكاتف، فتجاوزتها وأكدت بوضوح للجميع أنها لم تكن مجرد ظاهرة بصرية أو «فقاعة» عابرة، بل هي كانت منهجا تجاريا واقتصاديا راسخا يؤسس لبيئة ملتزمة بأسس الإبداع والجودة والشفافية.

من ناحية ثانية، دبي مدينة متصالحة مع نفسها، واثقة بذاتها.. ولذا فهي تجد أدنى حرج أو غضاضة أن تسأل زائريها، ومحبيها «كيف تحب أن ترى هذه المدينة في المستقبل؟»، أو أن تطلق مبادرة «فكّر» لأجل دبي وحلق بإبداعك وآمالك، وتخيل «ما هي المشاريع والأفكار التي تريدها أن تتصدر عناوين الصحف عن دبي بعد عشر سنوات؟»، تكتب وتدون أفكارك، وأنت تعلم يقينا أنك لن تتفاجأ حين تزور هذه المدينة بعد تلك السنوات، وقد رأيت الفكرة التي دونتها قد أصبحت مشروعا ضخما قائما رائدا يتصدر العناوين والأخبار، حينها فقط تشعر بأن عقلك حر محلق، وأنك شريك في هذا المكان ابن له، روحك تواقة تهفو إليه.

إنها حقا مشاهد تجسد شعار دبي الذي أطلقته في حملتها لاستضافة معرض «إكسبو الدولي 2020» بعنوان «تواصل العقول.. وصنع المستقبل».. هنا، في هذه الأرض النابضة بالحياة والأمل، العقول لا تتوقف عن الحركة من أجل تذليل المستقبل وصناعة الإنسان، هو الأصل أولا وأخيرا، كما قال قائد هذه المدينة الساحرة: «الإنسان أغلى ما نملك».. و«المستقبل يبدأ اليوم وليس غدا».

في «إكسبو 2020» تدخل دبي في منافسة مع نفسها، والذاكرة والتاريخ والواقع عوامل تنحاز لها، واللحظة لحظتها، و«إكسبو» لها وهي له.

هذه الأرض كما يقول قائدها: «ليست مركزا اقتصاديا فحسب، وليست محطة سياحية بين الشرق والغرب، بل هي مركز إنساني مهم على الساحة العالمية».

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط