ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

إنسان لا غير

آراء

شاهدتُ قبل مدة فيلما اسمه “التدريب”، يتحدث عن شخصين في منتصف عمرهما يعملان بائعين للساعات، إلا أن شركتهما تغلق لمشكلات مادية؛ فأخذا يبحثان عن عمل دون جدوى. وفي يوم من الأيام قرأ أحدهما إعلاناً لشركة غوغل، تطلب فيه منتسبين سيتم اختبارهم خلال فترة الصيف، وستختار منهم مجموعة واحدة فقط ليصبحوا موظفين دائمين في الشركة.

انخرط البائعان في الاختبارات، وبعد حِيَلٍ عديدة استطاعا أن يدخلا ضمن صفوف المتدربين، إلا أنهما يتفاجآن بأنهما الأكبر سناً في كل المجموعات. ولم يتوقف الأمر عند فارق السن، بل إن الفارق الثقافي بينهما وبين الفتية المنضوين في مجموعتهما كبير جداً.

فالشباب يتحدثون لغة جديدة تشبه الرموز، مشتقة من الأغاني والأفلام، ويستشهدون بمقاطع من مسلسلات معاصرة، ويستخدمون تطبيقات هاتفية لأداء كل شيء تقريباً، بدءاً بالحساب وانتهاء بالتصوير، ما عدا هذين “الكهلين” اللذين يبدوان وكأنهما قد أتيا مِن عالم آخر، فقال أحدهما للآخر مستنكراً: “نحن بائعان ولا نعرف شيئاً غير ذلك، لماذا أتينا إلى هذا المكان؟”.

ورغم تفوق مهارات الشباب وإتقانهم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات التكنولوجيا الحديثة، إلا أنهم يفتقرون إلى العنصر الإنساني في التعامل. فقلما تجدهم يتحدثون مع بعضهم البعض.

فالكُلّ مُطأطئ رأسه ينظر إلى هاتفه معظم الوقت، ولا يعرفون شيئاً عن مبادئ الصداقة أو روح الفريق الواحد. وهنا يبدأ البائعان بالتدخل وتعليم الشباب معاني بَدَت جديدة عليهم، كالتضحية، والوفاء، والوقوف مع الصديق وقت الحاجة.

بعد مشاهدة الفيلم قرأتُ تعليقات بعض الذين شاهدوه، فتنوعت بين داعمين لنمط حياة الشباب العصرية، وبين منتقدين لها، لأنها تخلو من معنى، ومؤيدين لطريقة حياة البائعين التي قد تبدو “كلاسيكية”، ولكنها طبيعية. تساءلتُ حينها عمّا يصنع القيمة الحقيقية للإنسان اليوم! وأعني هنا الإنسان الكوني الذي تجاوز حدود الانتماءات القُطْرية، واضمحلت ثقافته المحلية أمام الثقافة العالمية التي لم تعد “فخّا” .

كما وصفها “هانس بيترمارتن”، و”هارالد شومان” في كتابهما “فخ العولمة”، الذي صدر في التسعينات. فلقد تحول الفخ إلى عالم واسع، انخرط فيه الصغير والكبير، وأبرزُ ملامحه تضخم الفردانية إلى الحد الذي أدى لنشوء مظاهر وعادات اجتماعية لدى أفراد الجيل الجديد، يصفها البعض بأنها أمراض نفسية!

ولكن لنكن واقعيين قليلاً، لماذا نحن في صراع دائم بين التجديد والتقليد؟ لماذا يجب أن يكون هناك نمط حياة مُؤطَّر، من وجهة نظر البعض، يصرون على وصفه بـ”الطبيعي”؟ ما حاجة الناس اليوم للحفظ وتعلم الأشياء بالطريقة الكلاسيكية؟

فالهاتف يُتِمّ الكلمة بمجرد طباعة حرف أو حرفين منها، وغوغل يصحح الأخطاء اللغوية، والاتصال بالإنترنت صار متوافرا في أي جهاز وفي كل مكان وزمان. أي أننا نمشي والمعرفة الإنسانية كلها مخزّنة في جهاز صغير نحمله في جيوبنا، ولا يمكننا أن نشعر بالوحدة لأن لدينا آلاف الأصدقاء في تويتر وفيسبوك وإنستغرام وكييك.

وفي غيرها من الأماكن التي صرنا نرتادها أكثر من بيوت أقاربنا وأصدقائنا. فلماذا إذن لا نقبل هذه الأنماط الجديدة من الحياة على أنها أنماط طبيعية؟ لستُ هنا في معرض التأييد أو الرفض، ولكنني أتساءل فقط: لماذا لا نتقبل الحياة كما هي؟ وما هي معايير الصواب والخطأ؟

كيف يوازن المرء بين العصرنة المفرطة في السرعة والتسلية والتجديد، وبين حياة “الماضي الجميل” التي يتواصل فيها البشر دون مصالح، ويحملون هَمّ بعضهم البعض، ويذودون عن أصدقائهم وأحبائهم، لا لغرض دنيوي ولكن لتحقيق الإنسانية في ذواتهم؟

لقد دخلت البشرية دوامة حضارية تتسارع وتتناقض بطريقة عجيبة، لدرجة أن من يرعى الإبل في الصحراء يستخدم الهاتف نفسه الذي يستخدمه أستاذ للفلسفة في السوربون، كلاهما يضع صوراً في إنستغرام، ويتواصل مع أصدقائه في فيسبوك! فهل هناك حيّز مكاني، أو شروط واضحة، أو مواصفات معينة تُحقق مفهوم الإنسان الطبيعي؟

أم أن هذا المفهوم قد بدأ ينسحق تحت وطأة التنوع الكوني الناجم عن تبعثر الإنسان روحياً وتشتته فكرياً نتيجة لإرباكات ما بعد الحداثة، حيث تسود السطحية، والفوضى الفكرية، وابتذال المعنى، وبهتان الفكرة؟

لا أدري، ولكنني أظن أن محاولات تأطير الإنسان وجرّه إلى حظيرة “الطبيعي” ستبوء بالفشل ولا شك. ولربما آن الأوان لأن نتوقف عن محاولة وضع مسميّات، وقوالب، وفرضيات، للكيفية التي يجب أن يعيش بها الإنسان، وأن نمتنع عن استخدام النعوت الباهتة مثل: حضاري، أصيل، عصري، متخلف، متمدن، طبيعي… وغيرها، وأن نكتفي بتقبّله إنساناً فقط لا غير، ربّما نعيش حينها في سلام.

المصدر: البيان