هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

الاستيقاظ من غيبوبة الحُب

آراء

كان الطقس جميلاً في الخارج صباح ذلك اليوم فسحبت كوب القهوة من على مكتبي وقررت أن أتناوله في الهواء الطلق قبل أن أنهمك في جدول الأعمال اليومي، فلا يوجد أجمل من لذة تناول القهوة بمفردي على مقعد فارغ في الهواء الطلق لأنتعش بمداعبة نسمات الهواء الباردة لوجهي، هذه الطقوس الصغيرة كفيلة بأن تبهجني وتبعث شيئاً من الرضا داخل نفسي، تركت عينيَّ تسرح بعيداً فشد انتباهي مجموعة من العصافير تحاول قضم قطعة من الخبز، كانت السماء شبه غائمة ترسل بأشعتها تارة وتختفي خلف الغيوم تارة أخرى وكأنها طفلة صغيرة تلهو معي بشقاوة، أخدت الرشفة الثانية وقبل أن أبتلعها وجدتها تقف أمامي، وقد انتفخت جفونها وأنفها، فتغير الجو الذي كنت أُخرجه منذ قليل، ألقت بنفسها على المقعد بجواري تبكي وتنتحب بصوت مؤلم وتفرك عينيها بطريقة عصبية، تركتها تخرج ما في صدرها، وحاولت إنهاء كوب القهوة سريعا قبل أن يتغير طعم مذاقه في فمي، ناولتها منديلا بعد أن أحزنني وجهها الملطخ بالكحل الذي سال على وجنتيها وتركته بلا مبالاة، ولأنني أعرف جيداً حين تصل المرأة لهذه المرحلة فمعناه أن الألم أكبر من أن تفكر بمن سيراها، وهي في تلك الحالة المزرية، ربتُ علي يدها فرفعت رأسها ونظرت إلى عينيَّ مباشرة، فسألتها: (هو)؟، أومأت برأسها، ودخلت في موجة بُكاء أخرى.

كانت سماء كاليفورنيا تُمطر في الوقت الذي خرجت فيه من المحل التجاري، فتوقفت أمام المدخل تفكر محتضنة بين يديها كيسا ورقيا كبيرا بني اللون جمعت فيه احتياجاتها لأسبوع، حيث قررت تحضيرها قبل أن تغلق على نفسها للامتحانات النهائية التي تفصلها أياماً قليلة عن التخرج، وما أن لاحت الحافلة من آخر الطريق حتى تحركت لتلحق بها، فوجدت فجأة مظلة فوق رأسها تمشي معها يحملها أحد المارة الذي اكتفى بهز رأسه بشكل أنيق دون أن ينطق، شعرت بالارتياح والامتنان في أن واحد لأنها لن تتبلل إلى أن تصل لموقف الحافلات الذي كان يبعد خطوات عن المحل، أومأت له برأسها ثم شكرته بالإنجليزية: ( شكراً للطفك سيدي)، فرد بالعربية «العفو آنستي، لا شكر على واجب» وفي لحظة ارتبكت وتعثرت لتتناثر محتويات الكيس في منتصف الطريق، فانحني الرجل بسرعة يلتقط أغراضها التي غمرتها المياه ليعيدها في الكيس الورقي الذي تهالك من البلل، فسألها: «هل أطلب لك سيارة أجرة؟» أومأت بالإيجاب وكانت البداية.

تزوجته بعد قصة حُب خيالية، تمكَّن فيها من إقناعها وإقناع أسرتها التي تخوفت منه في بداية الأمر بسبب تجربة زواج سابقة له، في كل مرة يتحدث معها كانت تشعر بأن هناك شيئاً يخفيه، ولكن لم تستطع أن تحدد هويته، على الرغم من أنه لم يخف عنها تفاصيل تجربته السابقة حين هجرته زوجته وكسرت بقلبه لتتزوج من آخر، وفي اليوم التالي من عودتهم من شهر العسل بدأت تنقشع غشاوة ذلك الحب حين تركها في منزل لا يوجد به من الزاد سوى الماء ليختفي لمدة أسبوعين بشكل درامي، ولأن عقلها كان قد رسم له مسبقا صورة مثالية أفلاطونية، لم تسمح لموقف مثل ذلك بتشويهها، حتي بعد أن اكتشفت أنه كان يطارد زوجته السابقة المتزوجة بغيره، وظلت تقرأ لهما رسائل ملتهبة طوال سنواتٍ عانت فيها بصمت، ولا أدري كيف صمدت وهي تقرأ وتشاهد وتتابع توطد تلك العلاقة التي نشأت مباشرة بعد زواجها، توالت المفاجآت والأحداث المتشابكة التي عصفت بها، وهي تحاول إيجاد تبرير لها في كل مرة إلى أن سطعت الحقيقة كالشمس بأنها لم تكن سوى «وسيلة «!

من خلال قراءتنا لبعض التجارب الثانية التي لم تنجح، نجد أهم أطرافها ينقسمون إلى أكثر من فئة، فحين تتهيأ لهم الفرصة للبدء من جديد، تجد فئة يستفيد صاحبها من أخطاء التجربة الأولى ويُقدر بأنه مُنح فرصة أخرى يحرص فيها على ألا يكرر نفس الخطأ، وفئة تأخذ التجربة الثانية كوسيلة علاج فتجد صاحبها يطالب شريكته بتعويضه عما مر به وكأنها كانت مسؤولة عن اختياره، وفئة تحول التجربة الثانية لحقل تجارب تُستغل فيها عواطف الشريكة فقط لأعاده ما سلب من كرامته في تجربه سابقة.
ولأن أغلب الذكور في مجتمعنا لم يتعلم كيف يتعامل مع مشاعر الجنس الآخر باحترام، فتجده حين يكبر مازال محتفظاً بقناعاته الصبيانية، ولا يستطيع التخلص منها حتى حين يتزوج، بل تراه على استعداد لارتكاب أكثر من حماقة ليعيد شيئا كان قد حصل عليه أولاً وأخذ منه فيما بعد، كما حدث في تجربة تلك الزميلة التي أحبت بقوة، وربما كان الأمر يتطلب أن تتعرض للإهانة بأكثر من شكل، لتتألم لسنواتٍ طويلة، فتستيقظ في النهاية… وتتحرر من غيبوبة ذلك الحب.

المصدر: الشرق