البذاءة ليست قدَرًا علينا أن نحتملَه.. والتفاهة أيضًا

آراء

ماذا تضطر نجمات ونجومٌ كِبار وموهوبون لتقديم أعمال درامية ليست على القدْر الفنى المناسب لتاريخهم، مسلسلات تنتقص من موهبتهم، ومن تاريخ نجاحات بعض ما قدَّموه فى السابق؟ أعمال لا جديد بها سوى اجترار وتكرار ما قدَّموه، ونال نجاحًا فى السابق.

لماذا ينصاعون للمطروح من سيناريوهات سطحية، ولا يبحثون جيدًا، أو يفرضون – بثقلهم الجماهيرى وحِرص جهات الإنتاج على تواجُدهم – الجيِّدَ من نصوص ومعالجات درامية؟.

لماذا استسهال الكتابة، والنزوع نحو السطحية، ومصر تمتلك طاقات جيدة من الكتَّاب المعاصرين للرواية وفن السيناريو والقصة القصيرة؟ ولماذا يأتى عدد ما يُقدَّم من مسلسلات على حساب النوع؟

الأمر فى عمقه يتعدَّى كم تنتج مصر، وتوزِّع لكافة الدول العربية، يتجاوَز هذا العدد الكبير لقيمة وجودة وعلو ما تقدِّمه مصر وفنانوها فى المجالات كافة ويليق بها!.

هل يقبَل النجوم المكرَّسون بتلك النصوص الدرامية لمجرد الوجود على الخريطة الرمضانية وكفى؟ من أجْل ملايين الجنيهات السنوية التى يحرصون عليها، مهما تضخَّمت حساباتهم بالبنوك وأصولهم؟ يعالج مسلسل «جعفر العمدة» نفس أزمة صراع البطل مع أحد إخوته، وفقدان ابنه، والتى تناوَلها مسلسل «البرنس» من قبل. كما جاء مسلسل «ضرب نار» تنويعة سمجة على تيمة الثأر، وتحكُّم رأس المال المتوحش فى مصائر البَشر وعواطفهم، وفيه تتحدث البطلة والأخريات فى الأدوار الثانية بملامح الوجْه والجسد بلا رُقِى، بالعين والحاجب كما يقولون، وبعض الإيحاءات الجنسية المبتذلة، وحتى بافتراض أن الشخصية المكتوبة بالسيناريو توحى فى بنيتها بتلك المعانى، على صنَّاع الدراما تقديمها بطريقة أرقى مما يقدِّمونه من ابتذال وسوقية، ففى فن الصورة والدراما يتم تجسيد بنية الشخصيات بطرُق شتَّى، ومفردات متنوعة يمكنها ألَّا تلجأ لهذا الابتذال.

كما على النجوم والنجمات عدم الخضوع إلا لمقتضيات الفن الجيد، فلا يُفرض عليهم ممثل ما لتصور أن الجماهير تريدهما معًا، واستثمارًا لارتباط بالواقع، أو ممثلة ما لأنها صديقة للبطلة، وسنيدة جيدة لها، ويصنعان معًا إفِّيهات تُضحك المشاهدين، هذه الطرُق من قَصٍّ ولصْق لنماذج الممثلين تجعل الأعمال مكررة وبلا روح نابضة، بل يستشعر المُشاهِد تكلُّفها ولزُوجتها ويمَلُّ من مشاهدتها.

لا أتحدَّث هنا عن القِيَم الأخلاقية، أو ما يصح عرضه وما لا يصح فى رمضان، بل أتحدَّث عن الابتذال فى الصياغات الفنية للعمل، والسطحية، والسماجة فى الأداء.

متى يتوفَّر لدينا الممثل أو الممثلة المثقفة، الواعية بضرورة إعلاء القيمة الفنية والفكرية للعمل، بغض النظر عن التربيطات والتوازنات التى تفرضها جهات مختلفة.

إنه الابتذال ذاته الذى يتبدَّى فى مسلسل «إكس لانس» فى الحركات والإفِّيهات والكلمات، كما تصيب الإطالة والإفِّيهات المكررة المُشاهِدَ بالملل فى مسلسل «الكبير أوى».

كما قد أثبتت التجارب، فى أكثر من مَحَكٍّ وتجربة، أنه لا حقيقة لما يُطلِق عليه البعض «الجمهور عايز كده»، الجمهور يريد ما يُمتع عقله ووجدانه، ولا يستخف بهما، أيًّا كانت الشرائح والطبقات التى تتابع الدراما فى رمضان، أو ما عاداه من أيام ومواسم أخرى.

فحتى الآن يبدو معظم ما قُدِّم من مسلسلات فى رمضان 2023 لا يدعو للبِشْر فى القادم من حلقات، إلا بعض الأعمال المعدودة على اليد الواحدة.

أعود مرة أخرى للتساؤل: لماذا يضطر نجوم موهوبون القبول بالسيناريوهات المفرَّغة من الرؤية العميقة للإنسان والمجتمع، لماذا يقعون فى دائرة التكرار الممل، والحوار اللزج، الخاضع لدائرة المتوقَّع، معالجات تافهة لموضوعات تقليدية، مفرَّغة من محتوى يخاطب العقل، ويُمتع الوجدان والروح، لا يوجد عمل حقيقى يشتبك بجدية مع المشكلات الاجتماعية والإنسانية، النفسية والحياتية، بمهارة الفن والفكر العميق، أعمال تشير لمناطق الخلل الحقيقية بالمجتمع، للاستقطاب الحادث بالمجتمع بين الاعتدال والتعصب، للشائعات التى يطلقها الذباب الإلكترونى غير المنتمى سوى لتخلُّفه واحتكار السلطة بمصر، لعملية اللعب فى الأذهان، حد الوصول بالكثيرين لافتقار الثقة فى كل ما ينجزه المصريون، معالجة أزمة الحريات الحقيقية وحدودها الشائكة بين بسْط الحريات، وظروف البلد وأزمة الوعى اليَقِظ، التنبيه بالدراما لرخاوة يد الدولة على بعض الملفات المهمة مثل التعليم، ومحورية النهوض به، مثل التراجع الأمنى فى بعض الأماكن، أو التعرُّض لأزمة التغيُّر المناخى وعلاقته بدخل الفرد على المستوى الاقتصادى، انعكاسات الصراعات الدولية والخلافات والحروب على حياة الأفراد، وأثر المتغيرات الاقتصادية والتضخم على العلاقات البشرية، كل هذه القضايا وغيرها الكثير تمكِّن من صناعة دراما حقيقية، يمكنها أن تخلد وتصير أيقونات فى تاريخ الدراما المصرية.

فى رمضان 2023 لا تعامُل حقيقى مع إمكانات الخيال البَشرى فى كل ما تابعتُ، كما لا وجود فى معظم الحوارات التى تابعتها للكلمة الرشيقة الموحية، تلك التى تخاطِب عقل الإنسان وعواطفه.

فالفن الذى يتجاوز الواقع الرابض فوق ذواتنا، والذى يفتح آفاقًا أكثر رحابة على الوجود، فنٌ له أجنحة كبيرة واسعة يهبط فوق الواقع يلتقط منه نقاط توتراته، مناطقه القلقة ويرتفع بها فى متوازيات خيالية، تشاكس الواقع وتستنطق مناطقه المسكوت عنها، فن لا يقع فى طاحونة الواقع مسنونة القواطع.

كما على كُتاب السيناريوهات الدرامية إعادة النظر فى مقولات سائدة، اكتسبت صفة الحقائق مثل: كون الفن انعكاسا للمجتمع أو أنه مرآة له، فتلك الرؤية سيطرت على منظور الدراما فى عقود كثيرة ماضية، حيث الكتابة التى عدت انعكاسات لرغبة وطموحات الطبقة الوسطى المصرية فى الحفاظ على هويتها، ودعم وتثبيت منظومتها الأخلاقية والاجتماعية، يتجاوز الفن هذه المفاهيم، حيث يقود التغيير والارتقاء بالإنسان والمجتمع، لا يرسِّخ الفن ويصف ويبرر للكائن فقط، بل عليه أن ينتقده ويكشف نقْصه وعوارَه، يرتفع عن الواقع ليراه بصورة كلية تمكِّنه من خلْق رؤى جديدة، لا الاستغراق فى وصف التفاصيل دون أن نَعِى كيف نفهم ونرتقى ونعالج صدوعاتنا.

ويبقى أحد التساؤلات المهمة: لماذا نهتم بالدراما، بهذا اللون الإبداعى فى الأنواع الفنية؟

لأن الدراما هى الفن الأكثر تلقيًّا وتأثيرًا فى الشعوب والمجتمعات، خاصة المجتمعات النامية، لأسباب متعددة منها: ارتفاع نِسَب الأمية، خاصة بين النساء، عدم ترسيخ عادة القراءة فى الشعوب النامية بصورة واسعة، كما تُعد الدراما – التى يعرضها التليفزيون – الوسيلة الأقلَّ تكلفة مادية بالنسبة للمتلقى، لو قُورنت بالمسرح والسينما، كما أنها الأيسر أيضًا للإنسان، لأنه يشاهدها فى بيته دون عناء أو إعداد، ولها خاصية التنوُّع، كما لم يعُد بيتٌ يخلو من التليفزيون، لكنه قد يخلو من المكتبة. ففى تقديرى، لو أن نسبة معيَّنة من المتلقِّين قرأوا رواية «سره الباتع» ليوسف إدريس التى نشرت منذ عام 1958، فأضعاف أضعاف ذات النسبة ستشاهد المسلسل المأخوذ عن الرواية فى رمضان 2023، وتتابع أحداثه.

كما أن الدراما التليفزيونية بجانب كونها وسيلة للتسلية والمتعة، التى تقدَّم للمُشاهِد، لأنها تعتمد على الإرضاء والتثقيف، وتقديم الحوادث المألوفة والأنماط الاعتقادية والسلوكية التقليدية، إلا أنها تقدِّم فى بعض الأحيان نقدًا وتقييمًا للأوضاع الاجتماعية، كما تقدِّم تفسيراتٍ جديدةً للواقع الإنسانى، وتطرح تصوُّرات غيرَ مطروقة فى فهْم العالَم، والسياق الذى تعيش فيه مجموعة من المجموعات البَشرية، ومن هُنا تكتسب قيمتها وقدرتها على التأثير.

وتجدر الإشارة فى هذا المقام إلى نماذج جيدة من الأعمال الدرامية التى تقدَّم فى رمضان هذا العام، ففى مسلسل «مذكرات زوج» الذى كتب قصته أحمد بهجت، يقدِّم طارق لطفى الممثل القادر على تجسيد أنماط مختلفة من الشخصيات، الرجُل المصرىّ فى علاقاته الاجتماعية، وعواطفه دون صخَب، وتقدِّم أمينة خليل فى مسلسل «الهرشة السابعة» حياة معظم نساء الأُسر المصرية التى تبدأ حياتها المستقلة، ومشكلاتها الحقيقية الحياتية، وكيف يمكن أن نُمرِّر حياتنا ونحن نعيها، أيضا المتألقة دومًا نيللى كريم فى مسلسل «عملة نادرة»، وخالد النبوى فى رسالة الإمام.

فى النهاية أود اقتراح أن تشكِّل وزارة الإعلام والثقافة معًا لجنة من صناع الدراما، مع مجموعة من الكتاب والنقاد، لاختيار الأعمال الدرامية التى تنتجها شركات الإنتاج كل عام، على أن تعود الدولة بالإنتاج المشترَك، لضمان إنتاج بعض الأعمال الدرامية ذات القيمة المميزة، كما يكون منوطا بهذه اللجنة عمل وِرَش تثقيفية وفنية لفنون كتابة السيناريو؟ وهو ما يمكن العودة له فى مقالات أخرى.

المصدر: المصري اليوم