محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

التكلفة الهائلة للسباحة السياسية في فضاء الوهم!

آراء

الأخبار القادمة من بيروت ومن بغداد لا تختلف كثيراً عن بعضها في المقاصد، هنا وهناك جهود مبذولة من أجل (إطفاء) الحراك الشعبي والذي هو في أصله ومراده التخلص من النفوذ الإيراني وعودة الوطن اللبناني والعراقي إلى أهله، حتى بوسائل العنف المفرط. تنبع تلك الجهود من مكانين؛ الأول هو استخدام القتل والخطف والترويع لقادة الحراك أينما وجدوا، فقد اختفى عدد غير قليل من النشطاء العراقيين وقتل بعض آخر مباشرة أمام الناس ووسط المحتجين أو في الأزقة والشوارع قرب منازلهم، ويحدث مثل ذلك الترويع أيضاً في مدن لبنان وخاصة في بيروت، فيتجه ناشطو إيران العرب (اللبنانيون) إلى منازل النشطاء للتهديد وأيضاً يقومون بحرق خيمهم في ساحات الاعتصام.

أما المكان الثاني الذي تبذل فيه الجهود لإسكات الحراك وطمسه فهو الفضاء الشعاراتي، فالمنتفضون إما شيعة (السفارة) أو (شيعة الإنجليز) أو جماعة (متصهينة) وفي كل الأوقات (عملاء للأميركان) هذا التشويه المتعمد للحراك وللمحتجين يتغذى على رصيد من (الإرهاب الفكري) طالما كان معنا، والذي يجد له مكاناً في عقول البعض ذوي البعد الواحد، إما من خلال اقتناع طويل بمقولات سياسية قريبة إلى السذاجة وعفّى عليها الدهر، أو من خلال قناعات رسخت على مر فترة طويلة من الزمن لأطر في أحزاب وجماعات آيديولوجية، وكانت هي الرافد لكل محاولات التحشيد التي كانت تتم في العقود السابقة.

صلب الموضوع أن إيران (هكذا بوضوح ودون لبس) مستميتة في البقاء عند دفة القيادة في كل من لبنان والعراق، واللبنانيون والعراقيون يناضلون من أجل تخليص (دفة القيادة الوطنية) من أيدي جماعات (الولاء لإيران). في الداخل الإيراني يجري القمع باسم (الرب وباسم الفقيه المعصوم) وفي الغالب في المنطقة المظلمة بعيداً عن أنظار العالم أو وسائل الإعلام وبعد قطع الاتصال للشبكة الدولية، أما في العراق ولبنان فإن القمع لا بد أن يكون مكشوفاً لأن وسائل الاتصال لا تزال كلياً أو جزئياً تعمل، ولأن العالم لديه سفارات ومفوضون يراقبون الساحة السياسية وتطوراتها. نحن أمام مشهد (تموت) فيه السياسة لصالح اللاسياسة ويظهر بديلاً لها القمع العاري أو التشويه.

لقد وصلت إيران بسبب ظروف مختلفة ومعقدة إلى السيطرة على جزء غير يسير من أرض العرب، واعتقد متخذ القرار في طهران أن ذلك هو نهاية المطاف وأن وجوده يمكن أن يقبل بقوة السلاح، كلا الحراكين اللبناني والعراقي يثبت العكس، فالروح الوطنية اختبأت ولكنها لم تنطفئ في المكانين. ماذا يمكن أن يحدث من تطور في لبنان؟ العالم يراقب ويتخذ مواقف أيضاً فالمجموعة الدولية التي اجتمعت في باريس من أجل لبنان وبإصرار من الفرنسيين (خلعت قفاز الدبلوماسية) ووضعت شروطاً لتعويم لبنان من بينها (وجوب حماية المتظاهرين السلميين) وجعلت مسؤولية تلك الحماية على رجال القوات الأمنية والمسلحة. في العراق سمعنا أيضاً رأي المجتمع الدولي بأن (يُحمى المحتجون السلميون) ويقدم (من استخدم العنف المفرط ضدهم) إلى المحاكمة.

وفي سوريا حتى الحليف الروسي بدأ يرسل إشارات أنه ضاق ذرعاً بنظام الأسد، الذي وصفه أحد التسريبات (بأنه عنيد ومتعجرف). النظام الإيراني من جانبه يرغب أن يطفئ الحراك في الساحتين بالطريق التي يعرفها وهي استخدام القوة المفرطة، وقد جرب ذلك بشكل جزئي في الساحة العراقية. الواضح أن ذلك الاعتقاد يقابل باستعصاء على الأرض، وقد يكون قد وصل إلى استنفاد غرضه.

من البساطة أن يقتنع أحد في هذا المنعطف بأن النظام الإيراني يرفع راية الاستسلام في الساحتين اللبنانية والعراقية، لا يزال لديه رأسمال من البشر يمكن أن يسيروا معه في (قتل السياسة) بالبندقية وإحلال العنف محل التوق إلى الحرية، إلا أن استراتيجيته تلك تواجه بالمقاومة وبعضها يواجه الخسران. نظرية الولي الفقيه في السباحة في فضاء الوهم ترتكز على أن وجود نفوذه في الجوار الغربي لحدوده (في أرض العرب) يبطئ أو يؤخر انتقال المعركة إلى الداخل الإيراني، ليس أكثر وهما من تلك النظرية، فالداخل الإيراني يشهد أيضاً (حافة الحدود القصوى للصبر) ويلتاع من اضطهاد مزدوج سياسي واقتصادي.

الأمر ليس أكثر من وقت لتنفجر القوى الداخلية الإيرانية أكثر مما انفجرت في الأشهر والسنوات الأخيرة، ذلك شبه مؤكد وليست تمنيات، فكلما أوغل في استخدام أدواته ضد إرادة الشعوب (في الحالة اللبنانية والعراقية) زاد موقف تلك الشعوب إصراراً على الانعتاق منه وأيضاً ارتفاع قدرة تلك الشعوب على تسمية الأشياء بأسمائها، فكل من الجمهور اللبناني والعراقي لم يعد يشير إلى (المرض الإيراني) الذي أصيبوا به تلميحاً، بل أصبح تصريحاً وظاهراً للعيان في الشعارات التي ترفعها جماهير الحراك في بيروت وبغداد.

نعم تدفع الدولتان اللبنانية والعراقية ثمناً باهظاً بسبب هذا الصراع على أرضهما، فلبنان قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، وبنوك بيروت لم تعد قادرة على السماح للمودعين بسحب أموالهم، وكل ما يقوله السياسيون اللبنانيون على أن الأمر مؤقت ويراهنون على إنقاذ دولي في اللحظة الأخيرة هو وهم، فلن يدفع أحد أموالاً يستحوذ عليها «حزب الله» لإشاعة الفوضى في الساحة الخلفية للمتبرع! أما (إنفاذ القانون والنظام) في العراق فهما يشهدان تراجعاً لم يشهده منذ عام 2003 عند الإطاحة بالنظام السابق، وقد يأخذ العراق إلى شقاق اجتماعي وتشقق جغرافي يصعب رتقه.

حصرت مناقشتي للآثار المدمرة للمشروع الإيراني السابح في الوهم في مكانين، ولكن هناك أماكن أخرى يجول فيها النظام الإيراني بحثاً عن تحول السراب إلى ماء جراء الفشل في الساحات المنتفضة والاستعصاء الكؤود على بسط النفوذ دون مقاومة في أرض العرب، من بعض ذلك والذي يشكل خطراً داهماً على الجوار العربي هو محاولة العبث بالأمن في الساحة الخليجية بشكل مباشر أو عبر وكلاء وليس الاعتداء على منشآت النفط السعودية في سبتمبر (أيلول) الماضي ببعيد، وقد سُميت إيران أنها الفاعلة في ذلك الاعتداء من أكثر من مصدر دولي، والاحتمال قائم أن تدفع حافة (نفاد الصبر) في إيران بأن تأخذ أشكالاً عنفية متعددة على الجوار الخليجي، من هنا جاء بيان القمة الخليجية الأربعين في الرياض الأسبوع الماضي والذي كان من أبرز نقاطه التنديد بالاعتداء على المملكة العربية السعودية والتحذير من أن أي اعتداء على دولة خليجية سوف يعتبر اعتداء على كل منظومة دول الخليج، والرسالة واضحة باتجاه إيران، لأن هناك من هم على قناعة بأن محاولة إيران مواجهة الفشل قد تتحول إلى أشكال أخرى من العنف إنفاذاً لإكمال السباحة السياسية في فضاء الوهم.

آخر الكلام:

أربعون عاماً من العمل الخليجي لأول مرة تحضر عناصر نسائية في الوفود الرسمية المشاركة في القمة ذلك تطور لم يلحظ كثيراً ولكنه تطور في العمق.

المصدر: الشرق الأوسط