د. عبد الحميد الأنصاري
د. عبد الحميد الأنصاري
كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي

الحاجة لخطاب ديني إنساني معاصر

آراء

تشتد حاجة مجتمعاتنا اليوم إلى خطاب ديني إنساني معاصر يحتضن الإنسان لكونه إنساناً مكرماً من قبل خالقه عز وجل، ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة على أيدي نخبة مستنيرة من العلماء والمفكرين مؤلفات تعنى بإبراز القيم الإنسانية المتضمنة في النصوص الدينية قرآناً وسنة، من أبرز هذه المؤلفات كتاب سماحة الشيخ حسن الصفار «الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان»، نستمع إليه شارحاً قوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم»، فيقول: «عندما خلق الله تعالى الإنسان أقام له مهرجاناً كونياً للاحتفاء به، وأمر الملائكة بأداء مراسم التحية والإكرام له بالسجود. لقد ربط القرآن الكريم التكريم ببني آدم، أي أن التكريم للإنسان لكونه إنساناً، فالإنسانية وحدها علة التكريم وليس الدين أو المذهب أو الجنس أو الجنسية أو اللغة أو اللون، وهو بهذه الصفة له حقوق كاملة، لا يجوز لأحد أن ينتهكها أو يمسها».

وللمفكر العراقي المعروف الدكتور عبدالجبار الرفاعي كتابه المرجعي الهام «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، وقد ذهب فيه إلى أن الإنسان «كائن ديني» تكون ضميره الأخلاقي من الدين، لكن على مر العصور تراكمت على جوهر الدين موروثات مجتمعية حجبت الجوهر الأصيل للدين، ومن هنا علينا إنقاذ هذا الأصل المتمثل في القيم الإنسانية والأخلاقية بإعادة قراءة للقراءات المتعددة للدين، وللباحث المتميز المفكر زكي الميلاد كتيب نفيس بعنوان «الإسلام والنزعة الإنسانية» أصل فيه (النزعة الإنسانية) في ديننا، في قراءة موضوعية للعديد من النصوص القرآنية بهدف تفعيلها على أرض الواقع، ويقوم هذا التأصيل الإنساني القرآني على ثلاثة أبعاد: البعد القيمي المستند إلى وحدة الأصل، البعد الحقوقي المستند إلى قاعدة المساواة بين البشر، البعد الفكري المستند إلى أن الإنسان صاحب عقل وإرادة. وينتهي باحثنا إلى القول بأن «الإنسان ليس كائناً بيولوجياً فحسب، بل هو كائن فيه أيضاً نفحة من روح الله تعالى، تجعله يتطلع دوماً إلى السمو الروحي».. ولا ينسى المؤلف أن يقدر جهود المفكر الكبير محمد أركون وبحوثه الرائدة في «الأنسنة» في التراث والفكر الإسلاميين بدءاً من رسالته للدكتوراه في باريس في ستينيات القرن الماضي، إلى كتابه الشهير «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية» (2001). ويسلط «الميلاد» الأضواء على دراسات أركون في الأنسنة ويأخذ على منهجه أنه لم يرجع إلى القرآن الكريم مباشرة كـ«نبع ثري وصافٍ ومتجدد لاكتشاف نزعة إنسانية إسلامية» كما فعل كل من شريعتي وهشام جعيط، وكما فعل سامي النشار في كتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» حيث يقول: «إن المذهب الإنساني في القرآن مذهب رائع أخاذ، لم يترك نظرية أو مذهباً فلسفياً شغل به العقل الإنساني دون أن يبحث فيه ويضع أصوله العامة».
إن حاجة مجتمعاتنا تشتد اليوم إلى إبراز الجوانب الإنسانية في قرآننا الكريم وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، بسبب «التوظيف المفرط» للدين في صراعاتنا السياسية وخلافاتنا الطائفية. انظر على مد بصرك عبر الساحة العربية، فلن ترى إلا نزاعات ملتهبة، وعمليات قتل وتفجير تحصد أرواح أبرياء كل يوم باسم الدين زوراً وبهتاناً.

هناك أوضاع مأساوية تعيشها شعوب عربية والملايين من البشر النازحين واللاجئين، وهناك عنف وتخوين وتكفير ومنابر وقنوات تغذي التعصب والكراهية وتحرض على الآخرين وكل ينتسب إلى الدين ويسوغ عمله ويبرره بنصوص من الدين وتتدثر بعباءته، والدين من كل ذلك براء. قرآننا الكريم مع القيم الإنسانية ومع التسامح وحسن التعامل والبر والإحسان، حيث يقول تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»، وهو القائل جل وعلا: «وقولوا للناس حسناً»، و«قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» و«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، وهو القائل «إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، و«التعارف» كلمة إعجازية شاملة لشتى أنواع التواصل البشري.

وقرآننا يأمرنا وجوباً بأن نحسن معاملة الآخرين من غير المسلمين بالبر والقسط: «أن تبروهم وتقسطوا إليهم»، ورسولنا عليه الصلاة والسلام بُعث رحمة مهداة للبشرية جمعاً، وقد وصفه القرآن الكريم بأعظم وصف يحظى به إنسان: «وإنك لعلى خلق عظيم».

إننا اليوم في عالم تسعى فيه الشعوب إلى التقارب والتواصل وإزالة الحواجز بينها، لتعزيز المشترك الإنساني والأخلاقي والديني ممثلا في الإيمان بالخالق عز وجل والعمل الصالح والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان وكرامته والمبادئ العليا: المساواة والحرية والعدالة والمسؤولية الأخلاقية، إضافة إلى تحقيق المصالح المتبادلة واحتواء الصراعات والنزاعات ودرء المخاطر.. وكل هذا يتطلب من المسلمين، وعلمائهم وحكمائهم، إبراز القيم الإنسانية في ديننا وتفعيلها على أرض الواقع المعاش في مجتمعاتهم: تربية آمنة سوية، وتعليم منفتح على الثقافات والمعتقدات وإعلام يعزز القواسم الإنسانية المشتركة وخطاب ديني يحتضن الإنسان لكونه إنساناً وتشريع لا يفرق بين الناس في حقوقهم الأساسية.

إننا بحاجة إلى خطاب ديني يشيع المحبة بين الناس، يحصن الشباب في مواجهة فكر التطرف ويشحن طاقاتهم للبناء والتنمية والإبداع ويقدم صورة حضارية للإسلام ويحقق التقارب بين مكونات المجتمع الواحد والمجتمعات الإسلامية.

المصدر: الاتحاد