عبدالله المغلوث
عبدالله المغلوث
كاتب وصحفي سعودي

العالِم السمكة

آراء

تخيل أن متسابقا يركض بمثابرة في ماراثون طويل، يتصبب عرقا ويتجاوز مئات المتسابقين إثر لياقته العالية وحكمته في إدارة السباق، لكن عندما يصل إلى نهايته ويفوز يتوارى، يخبئ وجهه خلف يديه ويغيب، تبحث عنه عدسات الكاميرات ولا تجده.

إن هذا ما حدث تقريبا مع العالم البريطاني، بيتر هيجز، الذي فاز مع البلجيكي، فرانسوا أنجليرت، بجائزة نوبل للفيزياء عام 2013؛ لأعمالهما حول الجسيمات الأولية أو ما يسمى بـ ”بوزون هيجز”، الذي يعد من أهم الاكتشافات في تاريخ الفيزياء.

فعندما أعلنت ”نوبل” نبأ فوز هيجز بعد نحو 49 عاما من نشره النظرية الفيزيائية المثيرة اختفى تماما. لقد قامت البروفيسورة، أولجا بوتنر، أستاذ فيزياء الجسيمات الأولية التجريبية في جامعة أوبسالا في السويد، وعضو لجنة ”نوبل” بالاتصال عليه غير مرة، لكنه لا يرد. احتجب عن الأضواء تماما. تقول قناة ”بي بي سي”، هيئة الإذاعة البريطانية: إن الوصول إلى بيتر صعب جدا خاصة في مثل هذا الوقت. ”إنه شخصية خجولة جدا، يمقت الأضواء والتهاني، هو سمكة، لا يجيد الحياة خارج معمله ومنزله، ستكون مواجهته العدسات خلال استلامه الجائزة أصعب تحد يواجهه”.

يشير أحد أصدقاء العالم البريطاني لوكالة الأخبار ”بلومبيرج” إلى أن ”هيجز يشبّه الكاميرات بالمسدسات، إنها تقتل الباحث إذا سلم نفسه إليها”.

وكان هيجز أول من أشار في عام 1964 إلى وجود جسيم أولي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها، بشكل نظري، في حين أن البلجيكيين انجليرت وروبير بروت الذي توفي عام 2011 أطلقا أول الأعمال حول هذه المسألة.

وفي عام 2012 قام المعهد الأوروبي للأبحاث النووية CERN بدعوة نحو ستة آلاف عالم من أكثر من 100 معهد وجامعة في العالم، مستثمرا مليارات الدولارات؛ لاختبار ”بوزون هيجز” في قاعة اكتظت بحضور كثيف من العلماء. وقال وولف أوير، مدير المعهد، بعد جولة معقدة من التجارب: ”أعتقد أننا وجدناه”.

وفور أن أنهى أوير جملته ضجت القاعة بالتصفيق، وتدفقت من عيني هيجز دموع الفرح بعد أن تحقق علميا ما أنجزه نظريا قبل نحو أربعة عقود.

إن ”بوزون هيجز” يعكس ما تتطلبه الأعمال العظيمة من مجهود وذكاء وعمل مشترك.

لقد استطاع أن يحقق هذا النجاح المدوي بعد أن انهمك في عمل معقد لسنوات حوله إلى نظرية ملهمة اختبرها العلماء وناقشوها لعقود حتى أثبتت صحتها.

إذا أردنا أن ننجح علميا فعلينا أن ندرس سيكولوجية العلماء الأفذاذ كبيتر، كيف اكتسبوا هذا الشغف والحب للبحث والاستكشاف؟ كيف امتلكوا هذا الحافز المثير للعمل الدائب المستمر؟ كيف صمدوا أمام غواية الكاميرا؟ كيف غذوا غريزة الإبداع؟

حينما دشنت كلية أدنبره مركزا بحثيا باسم هيجز، التقط له مصور وكالة أنباء رويترز صورة وهو يلتحف بستارة، تعبيرا عن شعوره بالخجل.

اكتفى هيجز ببيان مقتضب يعبر عن فرحته بـ ”نوبل” رغم أنه مطمع لكل وسائل الإعلام إثر اكتشافه التاريخي.

يحزنني أن لدينا الكثير من العلماء العرب الواعدين في مجالاتهم لكنهم انصرفوا عن معاملهم إلى الأضواء. صاروا يوجدون في القنوات والصحف ووسائل الإعلام المتفرقة أكثر من وجودهم في مختبراتهم. أصبح طموحهم مناصب حكومية أو شرفية.

إن العظماء لا يبحثون عن المجد. المجد هو الذي يبحث عنهم.

إذا أردت أن تستشرف مستقبل أي أمة توجه إلى جامعاتها، إذا رأيت باحثيها يتنازعون ويتقاتلون على الكراسي والألقاب والمواقع فتأكد أن هذه الأمة تغط في سبات عميق.

الباحثون الحقيقيون هم الباحثون عن المعرفة وليس عن المرتبة.

المصدر: صحيفة الإقتصادية