محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

الفارق المميت بين الهجاء والتحليل

آراء

هل قرأتم في يوم لصحافي أو كاتب غربي أو آسيوي يتحدث عن الانتخابات في بلاده ويصفها بأنها «عرس ديمقراطي»، هل قرأتم تصريحاً لمسؤول غربي مثلاً أو كتاب موالين له يصفون فيها معارضي هذا المسؤول بأنهم «كلاب ضالة»؟ أو صحيفة موالية للحزب الحاكم تصف الحكومة بأنها «حكومة رشيدة؟».

وصف الانتخابات بأنها «عرس ديمقراطي» امتياز حصري للصحافيين والكتاب العرب لأن الانتخابات لدى الآخرين هي انتخابات، لا أكثر ولا أقل. فالغربيون وسواهم يتعاملون مع الانتخابات كأداة من أدوات الديمقراطية وليس باعتبارها احتفالاً يوظف لكيل المدائح للسلطة. المبالغة، التحقير، السباب، ترديد الإشاعات دون تحقق، الكتابة تحت وطأة الانفعال، الاجتزاء من السياق، خصائص ملازمة لأسلوب الصحافة والإعلام والتدوين في وسائل التواصل الاجتماعي لدى العرب.

أكثر ما يهم المتجادلين في القضايا السياسية لدينا هو البحث في النوايا، وقد يفسر هذا الهوس شيوع مفردات مثل «الخيانة» و«العمالة» و«الكلاب الضالة» في غالب ما نقرأه خصوصاً على الإنترنت وهو ما يجعل الجدل أقرب للهجاء. لكن هذا يقودنا إلى التساؤل، ما هو التحليل السياسي؟ هل هو مجرد رأي أم بحث مبني على معلومات؟

هل التحليل انطباعات أم خلاصة عمليات ذهنية من مقارنات وتقصٍ وتحليل وربط الوقائع والمعلومات؟ ومن أين تستقي المعلومات؟ وأين دور الأرشيف، أي التاريخ؟ ليس في غالب ما نقرأه شيء من هذا كله، فغالب ما نقرأه انطباعات وردود فعل مباشرة وغالباً ما تميل إلى الصخب الكلامي.

مبالغة وإطلاق الأوصاف والنعوت عوضاً عن الحقائق والمعلومات ووضع الحقائق في سياقها وحجمها الطبيعي، لهذا يبدو الجدل السياسي لدى العرب أو الكتابة فيه أقرب للهجاء منه إلى التحليل. أما السؤال عن الأرشيف أو التاريخ فهو من وجهة نظري يحيلنا إلى أكبر مشكلة يعاني منها المتجادلون في القضايا السياسية وسواهم، بل إلى خاصية لصيقة بالصحافة والإعلام العربي هي أنه «بلا ذاكرة». فغالب من يكتبون لا يرجعون إلى أرشيف أو تاريخ. والمفارقة أننا عندما نعود للأرشيف، نكتشف أن حدثاً مثل هذا تكرر سابقاً وأن غالب ردود الفعل حيال الحدث في نسخته الجديدة هي نفسها التي صدرت حيال الحدث القديم.

أكثر ما يلفت نظري لهذه الخاصية الأخيرة هو ما يدور على الساحة الفلسطينية. فعندما اقرأ الجدالات السياسية بين الفلسطينيين، أدرك أن غالبيتهم لم يتعلموا من دروس التاريخ القريب. فالنعوت والأوصاف والقصص التي يتم تداولها حول الرئيس محمود عباس (أبومازن) هي نفسها التي تم تداولها عن الراحل ياسر عرفات. اتهامات تبدو ذات نسق واحد رغم اختلاف بعض التفاصيل لكن نتيجتها واحدة:

«تشيع اليأس وحالة من العدمية»، لم تغير وفاة عرفات وما اكتشفه الفلسطينيون بعدها حول ثروته التي لم تزد على بدلتين عسكريتين وكوفية وعقال ولا مسؤولية إسرائيل عن اغتياله (وهو المتهم بخدمتها) من هذا كله في شيء.

خذلوه عندما رددوا بغباء كل التهم والإشاعات التي روجها الموساد الإسرائيلي عنه وها هم يكررون الأمر نفسه مع أبو مازن. ولأنه لم يكن مطلوباً تقديس عرفات أو الحط من شأنه بل التعامل معه باعتباره زعيماً يخطئ ويصيب، فإن المطلوب كان ولا يزال التعلم من هذه الدرس لا تكراره مع أبو مازن.

أثار هذه الملاحظات ما تابعته من كتابات وتعليقات من صحافيين وكتاب فلسطينيين ومدونين نشطين على الإنترنت بعد اتفاق المصالحة الأخير وتشكيل الحكومة الموحدة الانتقالية. فغالب التعليقات هي من نفس طينة التعليقات المليئة بالسلبية والتذمر والتشكيك (حتى لدى أولئك الذين يوزعون هجائهم بالتساوي بين فتح وحماس) والتي ستنتهي بقارئها إلى نفس حالة العدمية واليأس من إمكانية فعل شيء صحيح أو خطوة في الاتجاه المناسب.

ليس المطلوب وقف الانتقادات ولا كبح حرية التعبير بل عقلنتها. فما نراه هو أن غالب هذا النوع من الانتقادات والبلاغة اللفظية واستخدام النعوت والأوصاف لا تفعل سوى اجتزاء الوقائع من سياقها العام تماماً وتشيع «نفس حالة اليأس والعدمية». فالشكاوى من مصاعب الحياة اليومية وسوء الإدارة مثلاً تتعامل مع السلطة الفلسطينية ومع إدارة حماس في غزة وكأنهما حكومتان تعيشان أوضاعاً طبيعية كأي حكومة في العالم تملك الموارد والمداخيل المنتظمة وحرية الحركة..

وليست خاضعة لاحتلال فريد من نوعه في التاريخ وصمت دولي يقترب من التواطؤ. ثمة فارق بين النقد (المطلوب بشدة) وبين ترديد إشاعات حرب نفسية يطلقها الموساد ليس لها سوى هدف واحد هو ترسيخ الشعور بالهزيمة لدى الفلسطينيين والعرب عموماً.

المصدر: البيان