القلعة الحصينة وخطر المذهبية

آراء

قبل الخوض في غمار هذا الموضوع أدعو القارئ ولكي نتلمس معه خطورة هذا الأمر أن يرسم في مخيلته قلعة يحيطها جدار حصين شاهق الارتفاع. يحوُلُ هذا الجدار دون أن تتعرض هذه القلعة ومن فيها إلى أي غزو خارجي أياً كانت صورته.

الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو نبينا وقدوتنا. رسولنا الذي نلتمس من نهجه أسلوب حياتنا. فلا يقتصر الأمر على العبادات وإنما يسير ليطال كذلك المعاملات والقيادة وغيرها.

وحدة الوطن وضمان سلامته من الأهداف السامية لدى الشعوب وقياداتها. ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليقدم لنا درساً وبراعة قيادة في حفظ الوطن وسلامته. ففي المدينة المنورة عقد صلى الله عليه وسلم اتفاقاً مع اليهود وفق قاعدتين هما:
1- القاعدة الأولى: الآية القرآنية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). سورة الكافرون الآية (5)، والآية القرآنية الأخرى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). صدق الله العظيم سورة الممتحنة الآية (8).

2- القاعدة الثانية: الحفاظ على الوطن وسلامته.

فجاءت المعاهدات مبنية على تحقيق أمن الوطن وحمايته. واستمر الحال كما هو عليه حتى غدر يهود المدينة ونقضوا عهدهم. فأصبح لزاماً اتخاذ الإجراءات الضرورية للحفاظ على أمن الوطن وسلامته.

وبذلك يلاحظ القارئ الكريم أن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بناءً على ما أحدثه ذلك النقض من خطر محدق بالوطن ولم يكن مبنياً على تباين ديني فالقاعدة تقول «لكم دينكم ولي دين».

وبهذا يتضح أن التباين في الديانة أو المذهب لا يعني ألا تكون هناك وحدة وطنية تأتي بوصفها مظلة تنصهر في ظلها جميع التباينات الأخرى ليكون الوطن وهُويته هو الهدف الأسمى لجميع من يعيش في كنفه.

يستذكر معي القارئ المثال الجلي الذي سطره المصريون في حربهم ضد إسرائيل في عام 1973. فاجتمع الهلال مع الصليب وراحت المظلة الوطنية تحف المصريين دون أي اعتبار آخر في حربهم وتحقيق انتصارهم.

ويتساءل القارئ عن الرابط بين رسم تلك القلعة وجدارها الحصين في مخيلته وبين موضوعنا.

إن هذا الجدار الحصين الشاهق هو نتيجة سنين طوال من الترابط والتآلف والمحبة داخل المجتمع الواحد. فكلما اجتمع الناس على حب أوطانهم وأصبحت هُوية الوحدة الوطنية مظلة لبقية الهُويات الأخرى للمجتمع ومحفزة لتعايش ذلك المجتمع، كلما أصبح ارتفاع ذلك الجدار عالياً وأكثر حصانةً.

ماذا يحدث؟

إنه الخطر الخارجي يحاول الاقتراب من القلعة. يفشل فشلاً ذريعاً فالجدار حصين وشاهق. يحاول الكرة تلو الكرة. الفشل مصيره. فالوحدة الوطنية وسلامة الوطن تبقى الشغل الشاغل وهدف المجتمع.

ما هو الحل لإحداث الشرخ داخل هذا الجدار الشاهق الحصين؟ يتساءل الخطر الخارجي. هذا الجدار مكون من أفراد المجتمع الذين تجمعهم الوطنية. يلتفت الخطر الخارجي لأمر كان غافلاً عنه. ما هو؟ إحداث شرخ في الجدار من داخل القلعة الحصينة.

كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ ينظر الخطر الخارجي فيجد في التباين العرقي والمذهبي سبيلاً لذلك. يطل التباين المذهبي ليكون أكثر تأثيراً ففي كنفه يمكن أن تجتمع أعراق مختلفة.

المذهبية هي إذن الحل الأمثل. ما السبيل لتوظيف ذلك؟ القنوات الفضائية ذات الصبغة المذهبية تفي بالغرض. تنتشر وتكثر فيها الحوارات الهدامة، ويبقى شغلها الشاغل تصيد مقاطع الفيديو أو الشعارات أو التسجيلات لغلاة المنتمين للمذاهب. تزداد البغضاء بين المجتمع الذي ظل لسنوات طوال يعيش في سلام ووئام. تنتشر مقاطع الفيديو بين أتباع المذاهب، تترسب البغضاء وتتراكم في صدور أفراد المجتمع أنفسهم.

الخطر الخارجي لا يزال ينتظر. الجدار الذي يحيط بالقلعة لم يعد شاهقاً كما كان. الجدار من الخارج لا يزال على حالته. ماذا نرى؟ بدأت التصدعات تظهر في جدار القلعة من الداخل. كيف لا وقد أصبحت مظلة الهُوية الوطنية قاصرة على أن تُظِل الجميع بظلها. كيف لا والهويات المذهبية بعد أن كانت هويات معززة للوطنية وتعيش في ألفة، أصبحت تبحث عما يعكر صفو ذلك الوئام.

هل سيستمر ذلك التصدع؟ ينتفض عقلاء القلعة وحكماؤها، يلتفت الشعب إلى نفسه، يبعثر في أوراق تاريخه، إنه تاريخ زاخر بالألفة والمحبة. يتيقن الجميع أن من يحاول إثارة هذه النعرات لا يريد بهذه القلعة الحصينة ولا بأهلها خيراً.

نتفق مع القارئ أن هناك من زايدَ على ولائه وانتمائه لوطنه بولاءات أخرى عابرة للحدود. ينظر من منظوره الضيق وينسى أن حريته تقف عند حدود حرية الوطن والحفاظ على أمنه.

إن الديانات والمذاهب من مثل هؤلاء براء، فهم يوظفون انتماءهم المذهبي ويستترون خلفه للوصول إلى غاياتهم الفئوية ومصالحهم الضيقة. ومثل هؤلاء يأخذهم سيف القانون دون التفات لأي مذهب أو ديانةٍ ينتمون.

فيا نافخ كير الفتنة حسبك، وليكن نهج رسولنا طريقك ونور دربك.

إن ما يحدث في بلاد مثل العراق لهو مثال صارخ على نار فتنة الطائفية التي يوظفها العامل الخارجي ليزيد من تشظي المجتمع، وتأتي القنوات الفضائية المذهبية لتزيد من نار هذه الفتنة، وتحاول أن تبث سمومها لتصل إلى ما هو أبعد من حدود العراق.

لقد سطر البيان الصادر من علماء الطائفة الشيعية في القطيف والأحساء في المملكة العربية السعودية الشقيقة، ملحمةً من التلاحم والتعاضد داخل المجتمع ومثلاً يحتذى به للوقوف في وجه الأطماع الخارجية.

وبمثل هذا تبقى القلاع وجدرانها شامخة.

فيا من تعزف على وتر المذهبية أما آن لك أن تعود إلى القاعدة الشرعية القائلة «أحيوا الحق بذكره وأميتوا الباطل بهجره»؟

المصدر: الاتحاد