محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

الملاذات الصغيرة وصحراء فاطمة الهاملي

آراء

لم أتمكن من مشاهدة جميع الافلام العربية المشاركة في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الاخيرة، لكن على مدى يومين شاهدت ثلاثة افلام تشترك في خاصية الخروج عن قالب السرد السينمائي التقليدي. فأفلام “الشجرة النائمة” للبحريني محمد بوعلي، و”قدرات غير عادية” للمصري المخضرم داود عبدالسيد و”بيردمان” للأمريكي اليخاندرو غونزاليز تشترك في كسر قالب السرد التقليدي بأشكال مختلفة من تقنيات تداخل الأزمنة أو استرجاعها.

وفيما يبقي عبدالسيد وغونزاليز لممثليهما مساحة للأداء الذي يبدو طبيعياً، تدفع جمل الحوار القصيرة والقليلة والتركيز العالي على المشهد وتعبيرات وجوه الممثلين لدى محمد بوعلي ممثليه الى أداء مؤسلب يبدو محفزاً للفضول في الغالب رغم هدوئه. وفيما تجول كاميرا غونزاليز في الغالب داخل دهاليز المسرح وكواليسه لتعكس أجواء التيه الذي يلف بطل الفيلم، فان مشهد هذا البطل (مايكل كيتون) وهو يجري شبه عار في الشارع يبدو بليغاً للغاية: فهو هنا (رغم شهرته ممثلا مخضرماً) موضع سخرية وتساؤلات ويبدو ضائعاً عكسه في متاهة دهاليز المسرح. فالمشهد رغم جرعة السخرية فيه وانتشاره اللاحق على مواقع التواصل الاجتماعي يعكس غربة البطل عن زمنه.

اما داود عبدالسيد، فيوالي رسم مشاهده بالشاعرية التي تميز بها دوماً، فالنزل (البنسيون) الذي وجد الدكتور يحي (خالد ابوالنجا) نفسه فيه يبدو الملاذ الآمن الذي تقصده كل الارواح المتعبة، فهو جميل بتنوع نزلائه وبالطبيعة الساحرة من حوله وهواء البحر النقي الذي يجدد الرغبة في الحياة لدى سكانه. اما خارجه، فالأمكنة والشوارع تبدو خطرة وتضج بالقلق. هكذا يقدم غونزاليز وعبدالسيد العوالم الصغيرة المعزولة (دهاليز مسرح، نزل صغير على البحر) ملاذاً من حياة باتت تضج بالقلق والتوتر والانسحاق.

اما محمد بوعلي في “الشجرة النائمة”، فقد رسم مشاهده بعناية كعادته، وبدت جمل الحوار المقتضبة بين ابطال فيلمه تعكس توترا مكتوماً يدور حول الأمل واليأس في شفاء طفلة مصابة بشلل دماغي. وعلى هذا النحو سار الفيلم في جزأين بدا الاول بطيئاً اخذ يتسارع بسلاسة يتميز بها بوعلي في افلامه نحو النصف الثاني من الفيلم الذي عمد فيه المخرج والسيناريست فريد رمضان الى كسر طابع السرد عبر استعادة الزمن واستبداله وتداخل الاماني (المتخيلة) بالواقع تعبيراً عن التأرجح بين الأمل واليأس من شفاء الصغيرة ليقودنا بالنهاية الى الشجرة الاعجوبة التي نمت منذ ما يزيد على 400 عام على ربوة في صحراء البحرين والمعروفة بـ”شجرة الحياة” ويقدمها مجازاً للأمل والتمسك بالحياة.

تنحو الافلام الثلاثة – بدرجات متفاوتة بالتأكيد- الى تحفيز ذهن المتلقي عوضا عن منطق السببية البسيطة، وفي الغالب فان الخروج عن طابع السرد التقليدي بقدر ما هو اتجاه موجود لدى صناع الافلام منذ عقود، فهو اتجاه يتنامى في الازمنة الصعبة التي تفيض بالقلق وانعدام اليقين وتردي السوية الانسانية.

اما الاماراتية نجوم الغانم، فقد أعادتنا في فيلمها التسجيلي الفائز بجائزة الافلام التسجيلية “سماء قريبة” الى الواقع عبر توثيقها لقصة السيدة فاطمة بنت علي الهاملي. منذ فيلمها “بين ضفتين” حول آخر مواطن يمارس مهنة العبرة في دبي، تستقصي نجوم كعادتها المميزين واصحاب التجارب المتفردين في الامارات. وبعد “حمامة” الممرضة الشهيرة في الشارقة، نحن امام سيدة اماراتية ممهورة بالتحدي والتوق الى التفرد اسمها فاطمة بنت علي الهاملي وبطاقة تعريفها تقول: “أول مربية هجن إماراتية”.

التحدي الذي تخوضه فاطمة الهاملي واصرارها -رغم الرفض- على المشاركة في مسابقة أجمل الهجن المعروفة محليا بـ”المزايين” وشخصيتها المتفردة في القوة والاصرار على الحلم وتحدي التقاليد، من بين اكثر ما يجذب المتلقي لهذا الشريط الجميل. فشخصية أم محمد آسرة حقاً وتبدو عفويتها وتلقائيتها مقابلاً لحلمها الذي تعبر عنه اكثر من مرة في الفيلم نحو الوصول الى ابعد سماء.  تكرر ام محمد اكثر من مرة في الفيلم حبها للعيش في الصحراء مع الجمال والنوق وليس في المدينة، وتوالي الحلم بالفوز بجائزة “المزايين” بعفوية تدفع المتلقي للضحك، لكن براعة الاخراج تجلت في تحويل هذا الحلم والتوق من بين مشاهد تسجيلية اعتيادية الى مشاهد آسرة وجميلة عندما تعرض الكاميرا “أم محمد” تسير متأملة وحيدة في كثبان الصحراء على مد البصر. انها الصورة الاكثر بلاغة للتوق البشري للحرية، حيث تستقر الصحراء في اعماق وعينا معادلاً لا نظير له للحرية.

يعكس الفيلمان الخليجيان هنا التسجيلي الاماراتي “سماء قريبة” والدرامي البحريني “الشجرة النائمة” اضافة للفيلم اليمني الفائز بجائزة المهرجان للأفلام الدرامية “انا نجوم بنت العاشرة ومطلقة” والفيلمين الاماراتيين الاخريين “دلافين” و”عبود كنديشن” (لم اشاهد الثلاثة لسوء الحظ) تطورا نوعيا للسينما في الخليج وشبه الجزيرة العربية. وفي جزء من هذا التطور يمكن التنويه بالدور الذي تلعبه مهرجانات مثل مهرجان دبي السينمائي الدولي. فالورش الابداعية وصناديق التمويل الصغيرة مثل “انجاز” يمكن ان تلعب دورا يتجاوز التحفيز الى مقاربات اكثر فاعليه في تطوير ملكات الابداع لدى العشرات من المخرجين الخليجيين وفعالية اكبر في التمويل وتنفيذ الافلام. هذا الدور الذي يلعبه المهرجان حاليا هو مسار فعال يتعين البناء عليه وتطويره.