الواقعية السياسية وخطورة استهداف رفح

آراء

هناك مدرسة واقعية في السياسة والعلاقات الدولية تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنه إذا ما تمكنت من مهاجمة خصمك في مواجهة معه يجب أن تكون ضرباتك حاسمة وأن تتأكد ألّا تقوم لخصمك قائمةً بعد خوض المعارك معه سواء في الميادين العسكرية أو غير العسكرية، وهو الثابت الوحيد الذي لا يتغير في سياسة العالم الغربي على وجه الخصوص وكل من يسعى لأن يصبح قوةً عظمى أو لاعباً مؤثراً في أي نظام عالمي متوازن، ولهذا تعدّ كل الصراعات والنزاعات والحروب في العالم ما هي سوى انعكاس مباشر للأيديولوجيات والعقائد الفكرية والاستراتيجية والروحية والاقتصادية والهويات الجامعة للشعوب والأمم المختلفة في ذلك الصراع الحتمي بين المجموعات البشرية.

ويتساءل البعض هل ستتوقف إسرائيل عن شنّ غارات جوية على مدينة رفح الحدودية بجنوب قطاع غزة، حيث يقيم أكثر من مليون نازح فلسطيني؟ والجواب هو لا! بل الهجوم الإسرائيلي الواسع على رفح هو مجرد مسألة وقت إذا لم تنجح ورقة التلويح بالهجوم الواسع على رفح في تحقيق المكاسب المرغوبة لإسرائيل.

ويبدو أن إسرائيل لن يوقفها أي تحذير أميركي أو غيره، لكون التحذيرات من جميع الأطراف الغربية كانت على استحياء وبمثابة إشارة غير ممانعة، وإن كانت مشروطة لبدأ العملية، وكلها تصبّ في جملة «إن أي هجوم على رفح دون المراعاة اللازمة للمدنيين سيكون كارثة»، وهي الرسالة غير المشفرة للمباشرة في العملية والعيش مع الواقع بالنسبة لجيرانها الذين لم يغامروا بحرب مع الجانب الإسرائيلي، لكون المكاسب أكبر بكثير من خوض مواجهات مسلحة ضمن معطيات الواقعية في السياسة والسلام والحرب.

العملية البرية الإسرائيلية في رفح المدينة المكتظة بالسكان وشيكة وسيتأزم الوضع الحالي في غزة والضفة الغربية، وهما غير قابلتين للحياة في الوقت الحاضر بعد أن دُمرت البنية التحتية فيهما بصورة كلية، ولا مجال لخروج ودخول المساعدات إلا بشواظ من نار ليصبح حل الدولتين حلاً بعيد المنال، فهل الهدف من كل ذلك أن يكون حل الدولتين هو تحويل غزة والضفة الغربية لأكبر مخيمين في التاريخ البشري تحت مسمى دولة؟ أم أن حتى هذا الخيار وفق المدرسة الواقعية يعد ضرباً من الخيال! حيث إن، وجود دولة فلسطينية ملاصقة لإسرائيل- من وجهة نظر الأخيرة- هو تهديد مباشر للأمن القومي الإسرائيلي، ولم يفكر ولن يقبل أي مفكر أو سياسي أو استراتيجي إسرائيلي من حزب اليمين التقليدي الحاكم بذلك أو بمجرد الحلم في تحقيق حلم الدولتين، ولن تسمح بذلك كذلك الدولة التي ترعى ما يسمى بمحور المقاومة، فبدون وجود عداوة ودولة إسرائيلية سيتحول مشروعها إلى هباء منثور وستكون هي الجسم الغريب في المنطقة.

كما يتحدث البعض أن البديل الأفضل بالنسبة لفلسطين يتلخص في قبول قطعة أصغر من الأرض للحصول على سيادة داخلية حقيقية وحدود آمنة، وإعادة توطين سكان غزة في الضفة الغربية مقابل الانسحاب الدائم من المستوطنات الإسرائيلية وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، وأن تكون فلسطين الجديدة ضمن ترتيبات أمنية يشرف عليها الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة وشركاء آخرون متعددو الأطراف (مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية)، وهو أحد الخيارات الواقعية التي تتطلب إعادة رسم المنطقة وتغيير القيادات والمكونات السياسية، ولحدوث ذلك لابدّ أن تدخل إسرائيل لرفح.

والأمر لا يقتصر على السياسة فرفح هي الهدف غير المعلن منذ البداية، وقضية المياه والتأثير البيئي للإفراط في استغلال طبقات المياه الجوفية المحلية وهو ما سيؤدي إلى تملّح المياه من خلال تغلغل مياه البحر، وعملية التملّح هذه لا رجعة فيها ويمكن أن تنتشر إلى أجزاء كبيرة من نظام المياه الإسرائيلي، ناهيك عن أن مشروع المياه يمتد بين قارتين بالنسبة لإسرائيل ويشكل ضغطاً على أكبر مهددي أمنها القومي، وهو تهديد وجودي يكون البشر مجرد أرقام في ظله.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات

المصدر: الاتحاد