الولاية المبتذلة.. بين النص والتاريخ

آراء

تحت عنوان: الجوازات: “العمل على تحديد سن لسفر الكبيرات” بجريدة الوطن جاء تصريح المتحدث الرسمي للمديرية العامة للجوازات المقدم أحمد اللحيدان “وحول وجود تنظيم جديد لتحديد سن المسافرات للخارج، أكد اللحيدان، أن هناك تنظيماً حالياً يسمح لمن تُقدَّر ظروفها الخاصة من كبيرات السن من السفر دون تصريح، ونعمل على تحديد سن معينة لسفر كبيرات السن”.

هنا؛ لك أن تتساءلي عزيزتي القارئة/ القارئ عن الظروف الخاصة و”المقدرة” وكيف سيتم تحديدها، وعلى ضوء أي استراتيجية أو تعاليم سيكون التقدير؛ وهل هو تقدير المرأة نفسها- والعياذ بالله- وهي الواقعة تحت مقصلة الدونية والقهر الدائمين، أم سيترك التقدير للأولياء؛ فيجمع كل الأولياء لأخذ رأيهم في الأمر، وتبدأ اللجان وعمل اللجان الذي لا يخفى على مواطن جهودها، فكيف وهي ستتولى أمر الدرر والجواهر؛ الملكات غصباً عنهن!! لكَِ أن تتخيلي السيناريو الذي سيظل بلا إنسانيته يحفل بمزيد قهر ومزيد ابتذال، وتندر يشبه من شدة ضحكه بكاه.

أما “تحديد سن معينة لكبيرات السن” فيمكن- والله أعلم- وبحسب الطغمة الذكورية المتملكة للمرأة أن يقدر من 70 سنة فما فوق، ذلك أن الخصوصية لها شأنها الخاص الذي تتميز به عن سائر البشرية زماناً ومكاناً، حالاً وواقعاً، خاصة وقد ولّدت لفظاً لم يخطر على بال بشر، فلأول مرة يُسمع بتنظيم حقوقي يعتمد لفظ “كبيرات”، كل الدول تحدد قوانينها بمعياري؛ راشد/ غير راشد، والرشد محدد بعمر يكاد يكون مجمعاً عليه عالمياً، أما تحديد سن “للكبيرات” بتاء التأنيث فهذه خصوصية ربما لا يحلم بها حتى نرجسيو الذكورة في نومهم.. والسؤال الناطق بالمنطق: ألا تعني لفظة “كبيرة” أنها تعدت الرشد؟! تترك حرية الإجابة لمتحدث الجوازات إن أحب.

إذا ربطت هذا الخبر وواقع المرأة التي لا تدرس/ تعمل/ تسافر/ تتزوج/ تعيش بدون إذن ولي، ستصل لنتيجة صريحة؛ أنها ليست مواطناً بل ممتلكات مواطن، وبحسب النظام.. إنه باختصار؛ التدهور في التعامل بفقدان الأنسنة الذي يولد الانقسامات الضاربة في جسد الإنسانية، فكم امرأة- في سياق هذه المهزلة- أمٌ ربت هذا المسؤول عن تحديد السن المستشكلة للمرأة، وكم أخت وزوجة وبنت هي من تطعم وتكسو أسرتها، تساؤل يستنهض الولايات الآثمة، لكنها خرساء عن قول الحق عمياء بتجاهله..

لقد استمر استلاب المرأة وسلب حقوقها بتراكمية انقيادية لتوجيه مدرسة الفقه التي عاثت بإنسانية المرأة وعدتها من سقط المتاع حتى وصل بها الحال أن تشبه كيان المرأة بالبيت المستأجر، الذي يملكه الأب ويؤجره للزوج، وفي مقالي السابق ذكرت فتاوىً تصطرخ بعبارات متخلفة تتهم المرأة في طبيعتها وأخلاقها؛ ك” المرأة ضعيفة تتحكم فيها العواطف والرغبات غير الحميدة” والجزم بألا أمل في أخلاق المرأة إلا أن يكون من خلفها ولي ومن أمامها ولي ومن بين يديها ولي يمسك بذات العواطف السيئة فيها ويفرض عليها بالسجون..

وآخر عرى تخلفه وعنصريته الذكورية باتهامه المرأة التي تمارس حق قيادة السيارة بأنها عاهرة، ليس على سبيل الفعل” القيادة” بل خبثٌ وعهرٌ نوعيٌ بمجرد أن تستبدل السائق الرجل بامرأة..

إنني أحيل هذا الواعظ للتعرف على أقوى عشر نساء في العالم، عله يسأل نفسه؛ هل حصلن على مناصبهن بمقابل جسدي كما صور وهمه المترع بالجنس في حديثه عن نساء الغرب، أم كن ضحايا اغتصاب كما هذر بذلك؟!!، على هذا الرابط:

لست أعول على الفقهاء أو المفتين؛ لاعتقادي بمصلحة تمسكهم بملكهم العضود، لكنني أطمح لرؤية إنسانية أطالب بها العقلاء في المؤسسات المدنية الوطنية للدفع بالتعامل الإنساني تجاه المرأة واعتبارها مواطناً كامل الأهلية بتمكينها من حقوقها الأساسية وعلى رأسها” حق الحرية”الذي طالما شوهه الفقهاء بخلطه بالانحلال والفساد الأخلاقي.. فليست الأخلاق ضريبة على المرأة في إطار حركتها في الواقع، بل هي نهج للرجل والمرأة معاً.

بالعودة لموضوع الولاية نجد الجوازات طورت إجراءات الولاية على المواطنة البالغة العاقلة في السفر من الكرت الأصفر الذي يوقعه الولي لأمه وابنته وأخته وزوجته وجدته…الخ إن أراد أو يمتنع عن توقيعه- وله الحق- إن أراد، إلى الولاية الاليكترونية عن طريق خدمة أبشر تسهيلاً للأولياء، وفيهما يحق للولي سحب توقيعه بأي وقت يشاء..

ثم أضافت خدمة “ابشر” ضمن خدماتها التدليلية للولي بعث رسائل نصية “في حال مغادرة أو وصول أحد أفراد أسرته من النساء أو الأطفال لجميع المنافذ الحدودية للمملكة” لتحمل عنه هم المراقبة والتتبع على القاصرات من الأمة، في تمثل إجرائي يحكم القبض “الولاياتي” بدائرة الأولياء الذكورية، ويرعى حراستها بتقنية حكومية تبارك وتحمل الهم وتعين وتعاون..

بداية؛ جرى نقاش كثير بخصوص تلك الرسائل التي انهالت على جوالات الأولياء الصالحين، واجهته الجوازات بين نفي وإثبات، ولكثرة الإحراج خاصة من الرجال الذين رفضوا أن تستقبل هواتفهم تلك الرسائل القادحة في الثقة بالمرأة، جاء الإعلان عن إيقاف الرسائل فترة بسيطة لوجود ملاحظات وبأنها سوف تكون اختيارية؛ ليس للمرأة بل لأولياء الأمة السعودية لمن يرغب منهم بمزيد تتبع وتجسس..”مع إضافة بعض التعديلات للسعي إلى تطويره وظهوره بشكل أدق وأفضل ليفي بجميع المتطلبات التي وضعت من أجله” فهل من متطلبات لتلك الرسائل أكثر من التعاون على التجسس والملاحقة والتتبع؟!

على الجوازات إن كانت في نية تعديل التعامل فعلاً مع المرأة، أن توجه فرصة الاختيار للمرأة التي بلغت سن الرشد بين درايتها بأمر حرية تنقلها، أو تركه لولي أمرها، هذا فقط هو الحل الحقيقي لفك هذا الارتباط التاريخي الغاشم للقهر النسائي واتخاذ خطوة حقيقية لدرء الظلم مساهمة منها بتحسين دور المملكة في مسيرة حقوق المرأة، أما ما دون ذلك من التفكير في سن خاصة وتقدير خاص لظروف خاصة فتلك خصوصيات أعاقت الأنسنة والخلق القويم والقيم الفاضلة بمصادمتها مبدأ الحرية العظيم..

برغم ماسبق؛ يتبين أن اضطهاد المرأة وتهميشها لم يكونا حقيقة وواقعاً بسبب العامل البيولوجي أو الديني، إنما بسبب العوامل الاجتماعية والطبقية والأعراف والقيم الذكورية التي تنتج عن مصالح الرجل في الهيمنة والاستحواذ بها وإخضاعها لمشيئته، وهو أساس عدم المساواة بين الجنسين، الذي غذت توجهه اللا إنساني مدرسة الفقه ولا تزال.

ومنه تولد الاضطهاد الأبوي الذكوري البطريركي الذي يظهر في سيطرة الذكر على الأنثى في العائلة والمجتمع والسلطة، ويتم السيطرة فيه بتسلط الأب تسلطاً لاعقلانياً يوجب خضوع الأم والأولاد وطاعتهم له طاعة عمياء، كما يظهر في سيطرة الولد على البنت حتى لو كانت أكبر منه سناً وأوزن منه عقلا،ً وهذه السيطرة هي تعبير عن النزعة الأبوية واستمرارها جيلاً بعد جيل..

ينبثق عن هذا الاضطهاد الأبوي الاضطهاد القانوني الذي ينعكس في القوانين الوضعية والعرفية التي تضطهد بدورها المرأة في حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مايعيق تقدمها ومساواتها مع الرجل في الإنسانية.. وماهذا الإجراء الولاياتي الذي تصر عليه الجوازات إلا أحد هذه الابتلاءات اللا إنسانية.

خلافاً للتخبط الاضطهادي؛ يأتي ضبط مفهوم وأسباب وعمر الولاية بإسلام التمثل الموضوعي لقيم ومبادئ الإسلام من خلال إسلام “النص” لا التاريخ ليكشف شأن ولاية مختلف.. فنص “والمؤمنون والمؤمنات بعضم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…” يسقط التجني بالولاية الذكورية المطلقة، بتضمين مفهوم تبادل تكافؤي للأصلح/ الأم والأب على القاصرين والقاصرات، لا بولايات دائمة تعيق الحرية عن الراشدات، ويكفي بالولايات الحالية حمقاً أن يتولى الابن أمه ليدون العقوق بفضلها شهادات خزي وعار أخلاقية ودينية..

يبرز كتاب (السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ) لمؤلفه عبدالجواد ياسين، وهو بالمناسبة كتاب عظيم يزيل الغبش المفهومي والمعلوماتي الذي يكشف الفرق بين الإسلام كنص والإسلام كتاريخ ومدونات فقهية، المصيبة الحاجبة للمعرفة الأصيلة “العقل الإسلامي في مجمله مؤسس على الفقه أكثر مما هو مبني على النص بمعنى أنه يستمد الخلفية المرجعية على مستوى الوعي والفكر والشعور من تلك المنظومة “الفقهفكرية” المدونة التي لم تكن في ذاتها نصية بالقدر المطلوب”.

ويعلل لهذا الحكم بأن: “المكنونات المكنوزة في النص أكثر شمولاً ومناسبة من أقوال وآراء رجال الفقه، والأدوات المشتغل عليها من قبل الفقهاء كانت عاجزة عن الخروج بالنص من دائرة الدلالة إلى مجال الاستدلال، ومن ثم قاصرة عن استفزاز النص وتفجير طاقاته في مواجهة الزمان المتغير والمثقل بالواقعات”.

ذلك أن “الفقه المدون حتى في الشق المبني على النص منه يظل بالنسبة لكل زمان لاحق فقهاً لا نصاً، ومن ثم قاصراً عن إشباع حاجاته التشريعية المتغيرة بضرورة الامتداد، إنه سوف يبقى بالنسبة لكل زمان لاحق مصدراً غير نصي في كل الأحوال”..لأنه “قاصر عن أن يغطي أي زمان غير زمانه أو أي مكان غير مكانه”

ثم يعرج على أم المصائب الفقهية وسببها: “إن تضييق دائرة المباح التي سعت لها مدرسة الفقه هي مجرد هيمنة استبدادية لا شأن لها بالنص” الوحي”، مدافعاً بذلك عن أصالة الحرية الإنسانية: “لا تعني دائرة المباح من حيث هي في صميمها كف عن التكليف- شيئاً آخر غير إطلاق الحرية الإنسانية”.. بذلك؛ فحق الإنسان بحرية الحركة هو أمر متاح تحت قائمة المباح، لكن الفقهاء فتحوا وأغلقوا سدوا وأشرعوا بحسب النوع، تعدّياً على النص وافتراءً على أمر المشرّع في حرية العباد.

فنص الآية الكريمة “خلق لكم مافي الأرض جميعا” يمثل حقاً أصيلاً للحرية، فمن ذا يحرم المرأة من الحركة والمساحة والمكان ويفرض عليها حراساً وسجانين؟!، ومن أين له بهذا الظلم والإظلام وليس في النص”الوحي” وصحيح السنة مايعيق تحقق المساواة الشقائقية (النساء شقائق الرجال)؟!

ختاماً:

لايوجد “ورثة أنبياء” يوجد إنسان يفكر ويحرك عقله الناقد، فمن لا يحسن قراءة ماضيه وتراثه يعيد إنتاجه بنفس الكوارث والحماقات..لذلك ولأجل التقدم لابد من التوقف لإزالة الزَبَد، لتمهيد مسيرة الإصلاح الديني المنتَظر..

المصدر: الرياض