سوريا.. أنقاض وطن

أخبار

في مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات، حدث بعض الشباب السوري نفسه بالدعوة إلى تظاهرات في أنحاء سوريا لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ويومها لم يكن يدور بخلدهم أن الرئيس سيتمسك بالسلطة، ويجر البلاد إلى أزمة خلّفت بنهاية العام الماضي، حسب إحصاءات الأمم المتحدة 4.7 مليون لاجئ و7.6 مليون نازح داخلياً و230 ألف قتيل وثلاثة ملايين طفل خارج نطاق التعليم، وصارت البلاد نهباً لمليشيات من السحنات والأعراق كافة، وتحلق في سمائها مئات الطائرات الحربية، وتتحرك في أرجائها قوات ومخابرات العالم أجمع.

خلال هذه السنوات تمدد تنظيم «داعش» وسيطر على آلاف الأفدنة من الأراضي وتراجع ليفقد 20% من الأراضي التي كانت تحت سيطرته بعد التدخل الروسي، ونبتت مئات الجماعات الإرهابية وعقدت عشرات التحالفات، انهار بعضها ومازال بعضها مثل «جيش الفتح»، والقوات الكردية وصار شبح التقسيم يلف سوريا.

واليوم بعد كل هذه المأساة يكتشف السوريون والعالم أجمع أن الحل السياسي في سوريا هو الطريق الأقل كلفة، من حيث خلوه من جثث الشعب السوري، ودماء أبنائه، بعد أن انطلقت أمس المفاوضات بين أطراف الأزمة في مدينة جنيف، بعد إقرار وقف إطلاق النار لأول مرة آخر الشهر الماضي، وتأتي المفاوضات على خلفية خطة «عنان» المبعوث الدولي السابق، التي عرفت بجنيف (1) و«فيينا-2» وميونخ، ثم أتى القراران الدوليان 2254/‏‏2268.

موفد الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، قال إن المفاوضات ستتركز على ثلاث مسائل، هي: تشكيل حكومة جامعة، ووضع دستور جديد، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية برعاية الأمم المتحدة بعد 18 شهراً، تبدأ مع انطلاق المفاوضات.

وتمثل النقطتان الأولى والثالثة جوهر الخلاف بين الطرفين، في ظل غياب صيغة واضحة ومحددة، سواء في قرارات الأمم المتحدة، أو في نصوص التفاهمات الأمريكية – الروسية. ويبدو الخلاف كبيراً جداً بين الجانبين، ففي حين تؤكد المعارضة ضرورة إنشاء هيئة حكم انتقالية، ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، فإن دمشق تصر على تشكيل حكومة «وحدة وطنية». والفرق بين الحالتين هو أن المنظومة الحكومية الجديدة في الحالة الأولى تكون مطلقة الصلاحيات، أما في الحالة الثانية فتخضع صلاحياتها لسلطة الرئاسة، ولا تكون مطلقة الصلاحية.

وما زاد في تعقيد المسألة أن القرار 2254 تبنى مخرجات «جنيف-1» و»فيينا-»2 وبيان «ميونخ»، مما جعل كل طرف يتمسك بما يراه لمصلحته. فالمعارضة تتمسك بجنيف الأول، في حين تتمسك دمشق بمخرجات فيينا، حيث تقول الفقرة السابعة من بيان فيينا الأول «تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات». وفي انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات فإن نتائج سنوات من الحرب كانت قاسية جداً إلى درجة أن التفكير في الخروج منها سيحتاج إلى سنوات أطول من فترة الحرب والمأساة.

بين سيناريوهات التقسيم والحفاظ على الدولة

ظلت سوريا قلب الشام النابض، عرضة لمؤامرات كثيرة طوال تاريخها، ولكن المحنة الأخيرة التي ألمت بها، المتمثلة في الحرب التي تدور في أراضيها التي استمرت خمسة أعوام، تعد الأكبر من نوعها. رغم أن الجميع طوال الوقت كانوا قد أجمعوا على أن سوريا يجب أن تكون موحدة مهما كلف ذلك من جهد، وكانت الأصوات التي تدعو إلى تقسيم سوريا دائماً خافتة ولا تكاد تسمع، وإن سمعت تتعرض للقمع من الجميع بلا استثناء، وعلى رأس ذلك الدول العربية التي ترى أن المشكلة في وجود الرئيس الأسد، وليس في تعايش المكونات السورية مع بعضها، الذي يعود إلى آلاف السنين.

اللافت في الأيام الماضية هو الحديث الذي أدلى به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، آخر فبراير/شباط الماضي حول إمكانية تقسيم سوريا في حال لم تنجح الجهود الحالية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة، وتفعيل اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في الفترة نفسها، إذ قال كيري إنه يجب الجلوس حول طاولة النقاش للتوصل إلى تفاهم حول مستقبل سوريا، مضيفاً: «ولكن ربما فات الأوان لإبقاء سوريا موحدة، إذا انتظرنا وقتاً أطول». وهو الحديث الذي سارت به الركبان ووكالات الأنباء، إذ هي المرة الأولى التي تشير فيها الولايات المتحدة إلى خطر التقسيم الذي يهدد سوريا، وهو ما دفع مجلة «ديلي بيست» الأمريكية للإشارة إلى الأزمة المتفاقمة في سوريا في ظل الحرب المستعرة منذ أكثر من خمس سنوات، وقارنتها بتلك التي تعصف بـالعراق، وتساءلت: هل يريد الرئيس الأمريكي باراك أوباما تقسيم سوريا؟

قارنت المجلة بين الأزمتين في كل من العراق و سوريا، وقالت إن جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي، كان قبل عشر سنوات قد رغب بتقسيم العراق، معتبراً تقسيمه يمثل الحل للحرب الأهلية التي مزقت البلاد، وانتهت عسكرياً، وقالت إنه بالنسبة لسوريا، فإن وزير الخارجية كيري، يعتقد أن تقسيم سوريا قد يكون هو الحل المنظور والوحيد، وذلك في حال فشل اتفاق وقف إطلاق النار الذي سعى له الوزير بشكل كبير. وأضافت أن احتمالات فشل الاتفاق كبيرة، وأنه يُخشى أن يتم استغلاله من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري بشار الأسد والمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وذلك من أجل «التهام» المزيد من الأراضي، والقضاء على المزيد من المعارضة تحت ستار الالتزام بالدبلوماسية الدولية. وأشارت إلى أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول أمريكي عن تقسيم سوريا، وأن سوريا الموحدة لم تعد موجودة، وأنها ستبقى من الآن فصاعداً مكونة من «كانتونات» تحكمها حركات تمرد طائفية متناحرة.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكثر تفصيلاً في هذا المخطط الهدّام لتقسيم سوريا، عندما عقد مؤتمراً صحفياً في 28 فبراير/شباط 2016 محذراً من مخططات تقسيم سوريا إلى ثلاث مناطق، مؤكداً أن بلاده لن تسمح بإقامة دويلة في اللاذقية غربي سوريا. وأشار إلى أن بعضهم يدعم إنشاء ممر شمالي سوريا على أيدي ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، وحزب الاتحاد الديمقراطي، وشدد على أن تركيا لن تسمح بإقامة مثل هذا الممر، وستفعل ما يمليه الواجب عليها في هذا الخصوص، باعتبار أن وجود مثل هذا الممر للتنظيمات الإرهابية يمثل مشكلة وخطراً بالنسبة لأنقرة، وفي إشارة إلى محاولة «حزب الاتحاد الديمقراطي» إقامة كيان كردي يمتد من الجزيرة وعين العرب (كوباني) شرقي سوريا وعفرين شمالي حلب، قال أردوغان إن «هناك مَن يسعى إلى تأسيس دويلة في منطقة اللاذقية… وإننا سنعمل على إيقاف مخططاتهم».

وهناك شواهد عدة على أن القوى الغربية تضمر تقسيم سوريا، حيث سبق لمدير المخابرات الأمريكية السابق مايكل هايدن، أن أدلى بتصريحات لصحيفة «الفيجارو» الفرنسية، في يوليو/تموز العام الماضي، قال فيها إن سوريا والعراق سوف يختفيا قريباً من خريطة الشرق الأوسط، وقال «إن اتفاقية سايس ــ بيكو التي أطلقتها الدول الأوروبية آنذاك، لم تعكس الواقع على أرض الواقع، والمنطقة مستمرة في النزاع، وقد يستغرق الصراع الحالي نحو ثلاثين عاماً».

وفي دلالة أخرى سار مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه على نفس الطريق في واشنطن خلال مؤتمر حول الاستخبارات، قال فيه إن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة»، مؤكداً أن دولاً مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة.

وفي مقال سابق لوزير الخارجية الأمريكي هنرى كيسنجر، كتب في الاتجاه نفس قائلاً: بعد تفكيك واستعادة المناطق التي كانت لدى الإرهابيين ووضعها تحت سيطرة الجماعات المعتدلة، يتم تناول مستقبل الدولة السورية بشكل متزامن، و«يمكن بعد ذلك بناء نظام اتحادي بين العلويين والمناطق السنية، وإذا أصبحت المناطق العلوية تعد جزءاً من النظام الاتحادي السوري الجديد ففي هذا السياق يمكن وجود دور للأسد مما يقلل من مخاطر حدوث فوضى أو إبادة جماعية».

ويبدو أن الغرب ليس هو الوحيد الذي يتآمر على وحدة سوريا، إذ كتبت صحيفة «ديلي ستار»، أن إيران تسعى إلى إنشاء دويلة علوية في سوريا، تتألف من العاصمة دمشق ومنطقة الساحل والمناطق ما بينهما، بما فيها حمص وحماه، لتحمي نظام الأسد، ولتضمن وجود تواصل جغرافي مستدام مع المناطق التي يسيطر عليها «حزب الله» في لبنان.

وبحسب الصحيفة، تظهر هذه الخطة المعدة للتقسيم، استراتيجية إيران في الشرق الأوسط. ففي العراق وسوريا واليمن، استغل الإيرانيون الانقسام الطائفي، إذ علموا أن هذا هو السبيل الوحيد المتاح لهم لضمان اختراقهم لمجتمعات عربية ذات أغلبية سنية.

تضيف الصحيفة: «والمضحك في الأمر أن هذه كانت نية إسرائيل السيئة في السابق، أي نشر الفرقة في العالم العربي وتقسيمه إلى كيانات منهكة، وبذلك تتمكن من حكم كامل المنطقة بشكل أسهل. ففي العراق استغل الإيرانيون السياسيين العراقيين الذين يدعمونهم وميليشياتهم لإعاقة تشكيل حرس وطني سني يواجه تنظيم «داعش»، مما عمّق الخلاف الطائفي، وفي سوريا حرّض الإيرانيون على التطهير الطائفي في حمص والقلمون، وحثوا نظام الأسد على التخلي عن مناطق نائية ذات أغلبية سنية ولم يعد قادراً على الدفاع عنها، بسبب نقص موارده البشرية».

وكانت أكثر اللحظات دراماتيكية في سيناريو مستقبل سوريا ما بين التقسيم والوحدة، عندما صرح ولأول مرة نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في إفادة صحفية أنه من الممكن أن تصبح سوريا دولة اتحادية إذا كان هذا النموذج سيخدم الحفاظ على وحدة البلاد. وقال ريابكوف «إذا خلصوا… نتيجة للمحادثات والمشاورات والمناقشات بشأن نظام الدولة في سوريا في المستقبل… إلى أن النموذج الاتحادي (الفيدرالي) سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة، فمن سيعترض على ذلك حينها؟».

وفي اجتماع الجامعة العربية الذي ترأسته دولة الإمارات العربية المتحدة منتصف الشهر الماضي، الذي خرج ببيان واضح وصريح يرفض محاولات تقسيم سوريا، وقال أحمد بن حلي، نائب الأمين العام للجامعة العربية: إن الأمين العام نبيل العربي وضع المندوبين الدائمين أيضاً في صورة نتائج جولاته الأخيرة لعواصم أوروبية عدة، حيث ركز على التطورات الخاصة بسوريا في محاور وقف إطلاق النار والعملية السياسية التي ستنطلق في جنيف بين الحكومة والمعارضة السورية. وأكد السفير بن حلي رفض الجامعة العربية لأية محاولات بالمساس بوحدة سوريا، وسلامتها الإقليمية وسيادتها الوطنية.

كما أن رياض حجاب منسق المعارضة شدد في مؤتمر عبر الهاتف من الرياض الأسبوع الماضي مع مجموعة من الصحفيين على أن «وحدة سوريا هي خط أحمر»، وقال رداً إلى سؤال حول تطبيق الفيدرالية «هذه المسألة غير قابلة للنقاش» معتبراً أن «فكرة الفيدرالية هي مقدمة للتقسيم في سوريا، وهي غير مقبولة إطلاقاً». وأضاف «اتفقنا على فكرة اللامركزية الإدارية في سوريا» في إشارة إلى المؤتمر الذي عقدته أطياف واسعة من المعارضة السورية السياسية والعسكرية في الرياض في ديسمبر/كانون الأول، ونتج عنه تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات.

فيما تمنى المتحدث الرسمي لـ«الهيئة العليا للمفاوضات» د. رياض نعسان آغا، ألا تكون التصريحات الأمريكية أو الروسية مدخلاً لتقسيم سوريا).

ومن الواضح أن المعارضة تتبنى الدولة الموحدة بنظام حكم لا مركزي، فيما تلوح الولايات المتحدة وروسيا بنظام الحكم الاتحادي، لكن بالنظر إلى سوريا من الناحية الإثنية، فأي سيناريو تمزيق، سيدخل البلاد في متاهة، وثلاث دول لا تعود كافية (كردية – سنية -علوية)، وقد نحتاج على الأقل إلى خمس دول، وهذا يظهر أن إسقاط أي سيناريو من أوروبا الشرقية أو القوقاز على سوريا هو خاطئ، وسيفتح أبواب الجحيم على المنطقة بأكملها مروراً بتركيا إلى إيران، ولن يتوقف عند روسيا. فهل من معتبر؟!!!

المصدر: صحيفة الخليج