فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

سيتوقفون عن الاستهزاء.. ثم ماذا؟

آراء

لنفترض جدلاً أن الغرب توقف عن نشر الرسوم المسيئة، وأعلن أمام رؤوس الأشهاد أنه لن يتعرض لنقد الدين الإسلامي في مطبوعاته ووسائله الإعلامية. ولنفترض أن هذا الغرب سيتدخل لإنهاء الحرب في سورية، وسيضغط على إسرائيل لتذعن لمبادرات السلام التي نطالب بها، وسيقوم بإعادة بناء العراق وتنقية أجوائه الطائفية على رغم صعوبة ذلك. لنفترض جدلاً أن مسائل ليبيا ستحل بأية طريقة ويعود لشعبها الهدوء، ودعونا نفترض أن لا مشكلة في اليمن، ونفترض أن المملكة جرّمت الطائفية وطبقت ذلك بكل حزم، ونفترض ونفترض، ثم نتساءل بعد ذلك: وماذا بعد؟

ما الذي سيتغير في أحوالنا؟ هل ستختفي الجماعات الإرهابية التكفيرية من الساحة؟ هل سيتوقف نشاط «الإسلام السياسي»؟ أين سيجد قياديو هذا النشاط أنفسهم بعد ذلك؟ هل سيقبل الشيخ الفلاني، وهو الذي أفنى عمره تحريضاً، بأن يتحول إلى موظف في حكومة أو مؤسسة لا دور له في التسلط فيها على العامة وتصنيفهم؟ هل سيقبل المحرض أو «الداعية» الآخر، كما يحلو لهم تسميته، بالركون إلى بيته وتربية أبنائه؟ هل سيرتفع معدل الإنتاج لدى الفرد العربي المسلم؟ ما الوظيفة القادمة التي سيشغلها خالد مشعل وغيره من قياديي «حماس» ومن يؤيدهم ويعيد تغريداتهم ليلاً نهاراً؟ ما الذي سيحدث لرموز «الإخوان» في المملكة ومؤيديهم ممن لا هم لهم إلا النيل من بلادهم، ولا يتوقفون عن اختلاق الخصوم وشق الصف؟ وماذا عمن يمارسون «الدعوة» بشكل عام، كالذي لا يرى مشكلة في موت «خمسة سعوديين في سورية» ويكافحون «التغريب»؟ هل سيستمرون في «دعوة» المسلمين السعوديين إلى الإسلام، أم يتحولون إلى مطورين وصناع حضارة وإنسان وتنمية؟ وقبل ذلك هل يملكون من المؤهلات ما قد يشفع لهم لتقبل هذه المهن الجديدة؟ أتساءل لأن تخصصاتهم نادرة ومحصورة في نشاط واحد فقط، الأمر الذي يدفعهم للتشبث بها مهما تغيرت الظروف.

أسئلة كثيرة تحوم عندما يتأمل المرء في مشهد الحزن والبكائيات التي تعصف في عقولنا. كل ما تمكنا منم فعله في القرن الماضي هو لوم الأجنبي وأنه سبب تعاستنا وتخلفنا وتقهقرنا. وسنستمر على هذا المنوال لأن الشكوك تسيطر علينا بشكل مخيف، وفكر التآمر علينا يعشش في معظم العقول. تعلمون ما هي آخر المؤامرات بالطبع، وهي حادثة الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو» في باريس. فبمجرد قتل القتلة في دار للطباعة شمال المدينة بعد المطاردة المحمومة، ظهرت بعض الأصوات تغني وتتراقص وتتساءل: لماذا لم يبقوا عليهم أحياء؟ «الجواب المعلب» أن الشرطة قتلتهم لطمس أي دليل قد يكشف المؤامرة. هنا أتساءل: من الذي تآمر؟ وعلى من؟ وما الهدف؟ الرد جاهز بالطبع، فالمؤامرة من صنع الصهيونية وأجهزة الاستخبارات الغربية. هل للشرطة الفرنسية دور فيها؟ أقصد هل تعلم عنها الشرطة الفرنسية؟ وكم عدد الذين يعلمون من أفراد القوات الخاصة الفرنسية التي قتلت المعتدين؟ عشرة؟ عشرون؟ مئة؟ ألف؟ ثم إن قتل الإرهابيين كي لا يفشوا الأسرار ينطوي على أن الأخوين القاتلين هما فعلاً طرف في التآمر. هل يوجد جهاز استخبارات بذرّة عقل قادر على الثقة بمثل هذين الشابين؟ إنه المضحك المبكي والله. سألت محاوري في مناقشة سريعة: وماذا عن الهجوم على حدودنا في عرعر؟ إذ تم قتل الدواعش وتصفيتهم، فما قولك؟ قال هؤلاء معروفون وينتمون إلى «داعش» التي تأسست بواسطة شركة بلاك ووتر الأميركية، هل تجهل ذلك؟

لم العجب، معشر القراء الكرام؟ هل ننسى ما قيل عن أحداث أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١؟ ألم يرددوا مقولة إن القاعدة ورموزها كلها صناعة غربية؟ وأن الطائرات تم التحكم بها عن بعد؟ بمعنى أن ابن لادن كان عميلاً يؤدي دوراً إعلامياً لا أكثر ولم تخطط «القاعدة» أصلاً لذلك الهجوم! إذاً ما هؤلاء العملاء الذين يتم قصفهم بطائرات من دون طيار في كل مرة يخرجون من مخابئهم في اليمن وأفغانستان؟

حتى إيران وحزب الله يقومون بأدوار مشبوهة تنفيذاً لتفاهمات بينهم وبين إسرائيل. تصوروا أن هذه حقيقة وأن الحروب الطاحنة بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية في تلك الأوقات كلها تمثيل في تمثيل. تخيلوا عدم وجود أي عداء حقيقي بين إيران وأميركا وأن المشهد اليوم ليس أكثر من تمثيلية موجهة ضد العرب.

بصراحة ومع الألم والأسى أغبط مثل هؤلاء لأنهم في النهاية لن يشاهدوا ما نعانيه من أحوال مزرية. أغبطهم لأنهم قادرون على إلقاء اللوم على الآخر بكل سهولة وفي كل صغيرة وكبيرة ولا يشعرون بالقلق من تخلفنا وكوارثنا وفكرنا وشذوذنا وجهلنا وفشلنا. عندما لا يشعر المرء بمثل هذه المسؤوليات فهو يعيش في راحة لأنه في النهاية لن يجد ما يلوم به نفسه ولا تربيته لأبنائه. كلها مؤامرات من قوى خارقة لا ذنب لنا بها.

عندما أستعرض كل هذه القصص أدهش كثيراً، ما هي الأشياء غير الخاضعة للمؤامرات؟ وأتساءل أيضاً: ما الذي كان يمنع الغرب من رسم الكاريكاتيرات قبل 30 عاماً؟ كانت المطبوعات نفسها موجودة، لكننا لم نلحظ شيئاً من ذلك في تلك الأزمنة. هل يجوز القول إن هذه الإساءات لم تبدأ بالخروج إلا عندما بدأنا نحن بالإساءة إلى ديننا الحنيف قبل أي أجنبي؟

أما لمن قد يتساءل: وما الضير يا أخي؟ دعهم يفكرون كما يريدون، دعهم يتظاهرون في باكستان ويموت المئات بسبب رسام كاريكاتير تافه. أقول إن انتشار التصديق بالمؤامرات يؤدي إلى الإحباط، لأنه يضخم الفعل كثيراً. هذا الآخر الذي تمكن من وضع هذه الخطط ووظف لها هذا العدد من الأبطال كما تقول المؤامرة، من دون أن يكتشفه أحد، هو في الواقع عظيم ولديه قوى لا يستهان بها. هنا وحتى مع تذاكينا بأننا «اكتشفنا» مؤامراته، يدب الشعور بالدونية والشلل، إذ كيف لنا أن نقارع هذا الآخر؟ من يصدق بالمؤامرة عادة أفراد أو مجتمعات لديهم القدرة العجيبة لتغطية أي ثقوب في القصة بما يصب في مصلحة الطرف المتآمر. ومن يصدق بالمؤامرة في الغالب إما أنه شخص اطلع على خرافات طبعت في كتاب كما فعل تيري ميسان بعد أحداث سبتمبر، أو جاهل «طار في العجة» وامتطى هذه الفكرة ليدافع عن قومه أو تياره أو حركته. أو أنه شخص بسيط جداً غيور على دينه إلى الحد الذي لا يريد أن يعترف بوجود أحد من أبنائه بهذا القبح، فيلجأ إلى المؤامرة في سعيه إلى التبرئة أو التبرير.

أكاد أقسم بالله العظيم، أن جيلنا هذا لن يتغير حتى لو فرش لنا الغرب كل الطرق بالورود. سيخرج من يقول إن ذلك الورد في الطرقات تغريب، وسيخرج آخر يقول لن يهدأ بال اليهود حتى تصبح يهودياً. ولهذا فلا غرابة من هزائم تصيبنا بطلها رسام كاريكاتير في مجلة ساخرة لا قيمة لها. ولا غرابة من عدم الاعتراف بأننا لسنا إلا مجانين ومتخلفين وخارج إطار هذا الزمن، لكننا نتظاهر بالتحضر والتمدن فقط. ولا غرابة حقيقة عندما لا تجد إجابة على سؤال بسيط ومباشر: إلى متى؟ إلى متى ونحن ندور حول أنفسنا ولا نرى الحاجة إلى أي تغيير في الطبائع والتفكير والتخطيط والعمل؟ ولا نعير إعادة ترتيب الأولويات أي اهتمام.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter