مرام مكاوي
مرام مكاوي
كاتبة و أكاديمية سعودية

عمر وصناعة الحضارة

آراء

خلال شهر رمضان المبارك استمتعت بسيرة الفاروق عبر برنامج (عمر صانع حضارة) الرائع الذي قدمه الدكتور عمرو خالد، وقد تعمد أن يربط من خلاله بين الماضي والحاضر، فهدف البرنامج هو استنهاض همة الشباب لإحياء حضارة المسلمين في أوطانهم مستلهمين سيرة حياة مؤسس الحضارة الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. وقد تمكن الدكتور عبر أسلوبه السهل الممتنع من توثيق سيرة عمر بشكل علمي منهجي يجعله قابلاً للتطبيق والاقتباس، كما نجح عبر انتقال الكاميرا ما بين مكة والمدينة ومصر والعراق والأردن إلى جعلنا نعيش أجواء ذلك العهد الزاهر، وهنا تبرز أهمية الحفاظ على الآثار الإسلامية.

فقد قام عبر دراسة شخصية الفاروق من تحديد صفات الإنسان القيادي القادر على صناعة الحضارة وهي بشكل عام: الحركة والعمل، والإيمان العميق بالفكرة والانتماء إليها بالكلية، وتجميع صفات مختلفة تحقق توازناً في الشخصية مثل القوة والرحمة، والإخلاص، والمرونة، والتكامل مع الآخرين (مهارات العمل الجماعي)، ومعرفة الهدف من بناء أي حضارة وهو تحقيق السعادة للناس.

كما لخص إنجازات عمر المبهرة التي لم يسبقه إليها أحد، والتي – لضيق المساحة – سأذكر بعضها فقط، ففي السياسات العامة كان أول من أنشأ الدواوين (الوزارات) في الإسلام، وأول من أنشأ سجلات إحصائية للمواليد. أما في مجال العبادة فقد كان أول من جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، وأول من أسقط الجزية عن الفقراء والعجائز من أهل الكتاب، بل أول من أعطاهم مخصصات من بيت مال المسلمين، كما منع هدم كنائس النصارى. أما في مجال الإدارة والاقتصاد فكان من إبداعاته أنه أول من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية (الحكومات)، وأول من فرض أموالاً وعطايا للشعب من بيت مال المسلمين بما في ذلك الأطفال، وأول من أنشا سجلاً للمعلمين والحرفيين وخصص لهم رواتب.

وكان من الجميل أن أستمع لموقف عمر بن الخطاب من النساء، فأحد أكبر الإشكالات التي يرمي بها خصوم الإسلام عليه اليوم هي الموقف من المرأة. فهذا الفاروق المعروف بغيرته الشديدة يقوم بتولية الشفاء بنت عبدالله كمحتسبة في السوق تتابع عمل التجار ومدى مراعاتهم لأحكام الشريعة في تجارتهم. بل ويذهب عمرو خالد إلى التأكيد بأنها لم تكن مجرد محتسبة بل رئيسة جهاز الحسبة وهو ما يشبه جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم، وحين أنشأ الدواوين (الوزارات) وجعل من بينها ديواناً للحسبة كانت الشفاء ترأسه، مما يعني أنها بلغة عصرنا كانت وزيرة، في حين أن البعض اليوم يحرم عملها خارج بيتها! وهناك مثال آخر يبين تشجيعه للنساء وللعمل الحر كذلك، فقد أعطى هند بنت عتبة قرضاً بأربعة آلاف درهم من أجل إنشاء تجارتها الخاصة. ويحتاج العالم اليوم بشدة لرجل بعقلية عمر ليدرك أنه لتنشئ حضارة فلا بد أن تشرك الجميع في عملية البناء، فقبل أن تحاسب الدولة الأفراد على السرقة واقتراف المحرمات فهي تفتح أمامهم أبواب الرزق الحلال وتحقيق الذات، فلا يضل منهم إلا من شاء لخلل في نفسه.

أما حين نأتي للتعايش بين الحضارات والديانات في عهده الميمون، فإنجازاته هنا تستحق أن تترجم وتنشر وتلقى في وجه الحاقدين سواء كانوا من العرب أو الغرب، ممن ما برحوا يشوهون تاريخ الإسلام وحاضره ويرمونه بالإرهاب والظلم وكراهية الآخر. فتاريخ الفتوحات الإسلامية لا سيما في عهد الخلفاء الراشدين ينبغي أن يكون دستوراً لحقوق الإنسان، ولنقرأ العهدة العمرية التي عاهد عليها قساوسة القدس، ولنقرأ عن تعامله مع القبط في مصر، وهنا تبرز روعة تعاليم الإسلام التي عمد البعض إلى تشويهها، ففرض الجزية على المواطن غير المسلم لم يكن تمييزاً بقدر ما كان يعادل الزكاة التي تؤخذ من المواطن المسلم، وينال الذمي أو المعاهد في مقابلها ميزات من الدولة مثل البنية التحتية والتعليم والصحة والأمن. في المقابل نجد من خلال قراءة التاريخ الأوروبي والأميركي أنه تم استخدام المسيحية كغطاء لارتكاب مجازر باسم الرب شاهدناها في بيت المقدس من قبل الصليبيين، ومن قبل الإفرنج في الأندلس وما فعلوه بالمسلمين واليهود، وكيف تعامل المستوطنون المسيحيون الأوائل مع الهنود الحمر في أميركا والذين مازالوا يعيشون في ظل نوع من التمييز ضمن محمياتهم الخاصة.

فالحضارة الإسلامية هي حضارة أخلاق ومبادئ، فلا ترفع شعار الغاية تبرر الوسيلة، وهي حضارة زراعة وصناعة وعمران وبناء وعلوم ومعارف وأدب وغيرها من نواحي الحياة، لكنها ليست حضارة ترف وخيلاء، ولذلك لا أُعجب بمشاهدة الأبراج الشاهقة في الخليج، فهذه حضارة حجارة وحديد لا تمس جوهر الإنسان ولا تضيف قيمة للبشرية.

ولقد ركز البرنامج في رسالته على أن سبب مشكلاتنا الحالية هي أننا نستورد حضارة من الخارج لها قيمها ومتطلباتها، وهي متعارضة أحيانا مع قيمنا الخاصة، ونحن نحاول باستماتة تركيب قيمنا على هذه الحضارة، وحين نفشل كما هو متوقع نرمي باللوم على الشريعة أو على قيمنا أو على الآخرين! في حين أنه يفترض أن تنطلق من قيمك وهويتك ولغتك لتصنع حضارتك الخاصة ولدينا أمثلة من عالم اليوم: في اليابان وكوريا.

إن الذين يحصرون ديننا فقط في العبادات وبناء المساجد والحجاب والحدود لم يستوعبوا بعد رسالة الإسلام الخالد، وهي تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى وإقامة حضارة عالمية على أسس القيم والأخلاق. فإن نحن أكلنا وشربنا وصلينا لكن لم نأمر بمعروف، ولم ننه عن منكر، ولم نحاول الإصلاح أو نطالب به، فأية عبودية لله حققنا وأي حضارة في الأرض شيدنا؟

وكذلك فإن التدين المشغول بالجدل الفكري والمذهبي العقيم عن مناقشة احتياجات الأمة كإقامة العدل ودعم الاقتصاد ليس مؤهلا لرفع لواء الإسلام، إذ يرفعه عالياً في الآفاق من يفهم مقاصد الشريعة قبل أن يفهم الحلال والحرام.
نحتاج لثورة في الفكر، وثورة في السلوك، وثورة في التدين لنصبح ذلك الجيل المؤهل للنهوض بأوطاننا وبالتالي صناعة حضارة هذه الأمة.

المصدر: الوطن اون لاين