إيمان اليوسف
إيمان اليوسف
كاتبة إماراتية

قصة إعدام تمثالين

آراء

يتساءل جبران خليل جبران في إحدى قصائده متجاوزاً النظرة التي تعودتها الأهرامات إلى ما هو أعمق فيقول: “أكل هذه الأنفس الهلكى غداً، تبني لفانٍ جدثاً مخلداً”. اليوم ونحن نشهد أصواتاً تطالب بهدم الأهرامات يعود السؤال يطرح وتعود القضية هذه المرة لا لتشمل كل تلك “الأنفس الهلكى” التي خلدت حضارة عريقة وتاريخ عظيماً فقط وإنما لتضم إليها أنفساً هلكت وتهلك كل يوم وستهلك غداً أيضاً. هي جموع على تباين توجهاتها واختلاف قناعاتها إلا أن ما يوحدها هو حقها في هذا الارث الوطني والملكية الحضارية العامة.

 يختفي تمثال لعميد الأدب طه حسين في المنيا المصرية فيعد وزير الثقافة محمد صابر عرب بصب آخر من البرونز، يتبعه قطع رأس تمثال العملاق أبو العلاء المعري في إدلب السورية فيعبر كثيرون عن استنكارهم وبغض النظرعن كون التمثالين لأديبين عملاقين كلاهما كان فاقداً لنعمة البصر وهي أول نقطة أثارت اهتمامي مع أن الأمر قد لا يكون ذا صلة تذكر، وبعيداً عن تساؤلات تتعلق بمصير “الربيع العربي” والمنعطفات التي تسلكها مجريات الأحداث وبعيداً عن الفتاوى الدينية أوما يتعلق بوجهات نظر طائفية، لا يبقى غير الجانب الثقافي الأدبي بعد أن سقط الوجه الإنساني أيضاً من حسابات المعادلة.

ترى هل تدرك اليد المتجنية العلاقة الطريفة التي تربطهما إذ إن نحات تمثال المعري هو الفنان فتحي محمد الذي نصحه الأديب طه حسين بعد اعجابه بالتمثال يوم إزاحة الستار عنه بالدراسة في إيطاليا؟ لا يهم، لكن هل تدرك اليد أبعاد فعلتها؟ هو السؤال الأهم والأكثر إيلاماً مهما كان الجواب. كيف آلت الثورات إلى تحطيم رموز ثقافية وأدبية وفكرية وهي التي اندلعت باسم حقوق الشعوب وحرياتها؟

هل يصح قطع رأسي التمثالين تحت بند “الأصنام” دون أن يكون لهما من يفكر حتى في عبادتهما أصلاً؟ أم أنهم استهدفوا الفكر والثقافة التي يمثلها الأديبين حين وقعوا على عبارة المعري عندما مرض فوصف له الطبيب فروجاً (وقد كان نباتياً) فقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟ واللبيب بالإشارة يفهم.

مع تصاعد ردة الفعل ضد حادثة التمثالين نجد آخرين يستكثرونها مقابل الدماء البريئة التي أريقت والدمار الذي شمل الأخضر واليابس. لست بصدد إجابة أي من الأسئلة التي طرحت فقد قام ويقوم بهذه المهمة من هو أكثر مني معرفة ودراية. أنا ببساطة سأقف دقيقة صمت لأنشد “قف بالمعرة وامسحْ خَدَّها التَّربا” ليرد رجع صدى الجواهري بباقي أبيات رائعته التي تمجد المعري وسأتخيل إدلب من دون معريها والمنيا دون طه حسين فأدرك أنهم بفعلتهم اغتالوا القصائد والتاريخ. لقد اختطفوا بجريمتهم روح المكان فكأني بمدننا استحالت تمثالاً عظيم الجثة متجهماً شاحباً، عابساً …. بلا رأس!

خاص لـ ( الهتلان بوست )