زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

قلق الثورة المستدامة

آراء

في إحدى مجموعات التواصل الاجتماعي، أرسل أحدهم تغريدة يدعو فيها بقوله: (اللهم اجعلنا من الثائرين في سبيلك)، ثم توالى بعض أعضاء المجموعة بالتأمين على دعوته تلك، لكني لم أؤمّن معهم، بل تحفّظت على مشروعية الدعاء نفسه. إذ رأيت من المغالطة اعتبار أن «التثوير» هو حالة اعتيادية لحياة الإنسان، فيصبح من المستحسن التأمين على دعاء مفتعل كهذا. الثورة حالة استثنائية في حياة الإنسان السوي الذي يسأل ربه ألا يحوجه لها إلا في أضيق الطرق.

وعوض أن نقول اللهم اجعلنا من الثائرين… لنقل اللهم اجعلنا من الآمنين، وهو من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.

خطاب التثوير الدائم لا ينتج مجتمعاً هادئاً مطمئناً، متعايشاً مع نفسه ومع الآخرين، بل يصنع مجتمعاً قلقاً في حالة استنفار دائم وكراهية ناجزة تبحث دوماً عن ضحاياها.

التثوير الدائم هو نتاج مدرستيْ الشيعة والشيوعيين.

استند متطرفو الشيعة في ثورتهم الدائمة منذ 1400 عام من أجل الثأر لدم الحسين عليه السلام، فأصبح المستسلمون منهم لهذه الأيديولوجية الثورية مشروعاً مستديماً لشتم كبار الصحابة رضي الله عنهم ولعذابات عاشورائية لم تُرو غليل الثأر حتى الآن منذ قرون!

واستند الشيوعيون في أدبياتهم الثورية على توفير العدالة المثالية وطمس الطبقية، فأصبح المثاليون من أتباع هذه الأيديولوجية مشروعاً مستديماً لشتم الإمبريالية والملكية، حتى على رغم توفير الإمبريالية لهم منصات الحديث المأسوي المستديم!

حين يهب الإنسان نفسه لكينونة الثورة المستدامة في دواخله يصبح غير قادر على رؤية الأشياء الجميلة، كما يفقد الحاسيّة تجاه الإنجازات لانشغاله بالعذابات، ويضيق قلبه عن استيعاب قوائم ومساحات واسعة من المحبة والتوافق والرضا. كما تَحْوَلّ عيناه عن رؤية الصواب عند الآخرين والخطأ بين قدميه.

هذه ليست دعوة لعدم الثوران ضد الظلم أو الاستسلام للبغي، لكنها لترشيد الثوران وقَصْر مساحته الزمانية والمكانية ما أمكن ذلك، لأن الثورة بطبيعتها هي حالة عاطفية انفعالية تستهلك مشاعر الإنسان و «تريح» عقله من عناء التفكير في مآلات النجاح الذي يتحقق من حوله لدى غير المنشغلين بالثورة، وهو ما زال يكابد فشل تحقيق ثورته!

يستخدم الخطاب الثوري مقاربة لغوية ظريفة لوصف الذين لا يريدون الانخراط خلف الثورة بأنهم ينخرطون خلف البقرة! (راجع مقالتي هنا: الخطاب الثوري والخطاب البقري، 9 حزيران/ يونيو 2010). لكني، وقد أوشكنا أن نستدعي «مزرعة حيوان» جورج أورويل، أفضّل اختيار «الحصان» نموذجاً بارعاً لحالة الإنسان الانفعالية المتقلبة بين الثورة ومضادها، فالحصان هو رمز القوة والأنفة عند خوض الحروب، لكنه هو ذاته رمز الجمال والفتنة والكبرياء في صورته الأخرى الأكثر حضوراً.

يتفاقم التثوير، تاريخياً، عندما يتم تصوير عصور من قبلنا على غير حقيقتها. فالإشعار الدائم بأن من سبقونا كانوا كلهم أبطالاً وفي كل الأوقات يكرس عندنا عقدة ذنب «القعود»، وكأن النفرة هي فقط ضد الآخر وليست مع الذات، وهي لقتال وهدم الآخرين، لا لبناء ومجاهدة أنفسنا.

لنأخذ مثالاً بالخليفة هارون الرشيد، فقد صوّره الخطاب «البقري» الارتخائي أنه كان منشغلاً طول حياته بالخمر والقيان والغلمان، فجاء الخطاب «الثوري» منفعلاً ليدافع ويصحح الصورة، فأشاع في أدبياته أن الرشيد المفترى عليه كان يحج عاماً ويغزو عاماً. وما نحتاجه في الحقيقة لأجيالنا هو الخطاب الإنساني الذي يصف هارون الرشيد بأنه: كان يحج عاماً ويغزو عاماً ويعيش أعواماً. لأننا بغير هذا الخطاب وهذا الاستنتاج لا نستطيع أن نفسر الثروة المعرفية الهائلة التي وجدناها عن عصور الرشيد ومن بعده من الفتوح والبناء والإعمار والفنون والآداب والعيش الرغيد.

ما هو المنجز الذي حققه الخطاب الثوري الشيعي أو الشيوعي مقارنة بمنجز الحضارة الأندلسية، التي لم تكن حتماً نتاج خطاب ثوري مستديم، إلا في الثورة على الذات الخاملة.

أكرر هنا، ختاماً، بأن الحياة السويّة لا ينبغي أن تكون في ارتهان دائم لحسّ الثورة وانفعالاتها، لكن أيضاً لا ننسى أن كثيراً من المحطات التصحيحية للإنسانية لم تنجز بغير ثورة.

إذا كنتُ ضد التثوير الدائم فهذا لا يعني أني دائماً ضد التثوير!

المصدر: الحياة