محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

كلاشنيكوف: سطوة التنميط

آراء

حصدت حرب فيتنام التي استمرت 19 عاماً، أرواح مليون و100 ألف فيتنامي اضافة الى 3 ملايين جريح، فيما بلغ عدد الضحايا من الجنود الامريكيين 57,522 ألفاً. وعلى الرغم من أن الضحايا في كلا الجانبين لم يسقطوا برصاص البنادق فحسب، يصح التساؤل عما اذا كنا قد قرأنا في يوم مقالا يفيض باللوم الأخلاقي للسيد يوجين ستونر مصمم بندقية “إم 16” الامريكية.

أستعيد ارقام حرب فيتنام، في غمرة التقارير التي نشرتها الصحافة الغربية الاسبوع الماضي حول وفاة ميخائيل كلاشنيكوف مصمم البندقية الشهيرة “ايه كي 47”. لقد عرضت تلك التقارير لبعض تفاصيل حياة كلاشنيكوف، لكن ذلك يبدو غير ذي اهمية عندما تعيد تلك التقارير التذكير بأمر واحد: المسؤولية الاخلاقية التي يتم تحميلها لكلاشنيكوف لاختراعه “الاسطوري” الذي انتهى به المطاف في يد الثوار والارهابيين والمجرمين وطغاة العالم الثالث على ما تذكرنا به هذه الصحف. يتم ترسيخ هذه المسؤولية الأخلاقية بدأب ومثابرة دوما بإيراد مقتطفات من مقابلات سابقة للرجل يبرئ فيها نفسه من مسؤولية ملايين القتلى الذين يسقطون برصاصات بندقيته حسب هذه الصحف.

إن أسئلة العبء الأخلاقي هذا تبدو دوما وكأنها امتياز حصري للسيد كلاشنيكوف دون سائر مخترعي الأسلحة المماثلة. لكن وبموجب منطق المحاكمة الأخلاقية هذا، فإن حصيلة قتلى حرب فيتنام ليست سوى تذكير بسؤال صغير: لماذا لم نقرأ في يوم أي لوم أخلاقي أو تقريع للسيد يوجين ستونر مصمم بندقية “ام 16” الأمريكية طالما أن لبندقيته نصيب من مليون و100 ألف قتيل فيتنامي مضافا إليهم 3 ملايين جريح؟

في 23 ديسمبر الماضي، أعادت صحيفة “ذي تايمز” البريطانية تذكير قرائها بالمسؤولية الأخلاقية للسيد كلاشنيكوف عن موت ملايين من الضحايا عند نشرها خبر وفاته، بينما كتبت وكالة “رويترز” في مقدمة خبرها عن وفاته: “توفي ميخائيل كلاشنيكوف (94 عاما) مصمم البندقية الهجومية التي قتلت عددا من الناس أكبر من أي سلاح ناري آخر في العالم[1]”. ولصحيفة “ديلي تليغراف، فإنها كانت وفاة الرجل الذي ابتكر سلاحاً “أصبح خيارا مفضلا للثوار والإرهابيين عبر العالم”. وببلاغة أكثر، تكتب وكالة الاسوشيتدبرس الامريكية في مقدمة تقريرها: “لقد كان ميخائيل كلاشنيكوف يحلم في بداية حياته بأن يصمم معدات زراعية، لكن ما حصده هو الدم المتأتي من ابتكاره لبندقية (ايه كي 47) أكثر سلاح ناري شهرة في العالم”.

هذا ليس بجديد طالما أن الأرشيف مليء بقصص وتقارير من هذا النوع لا تذكر اسم كلاشنيكوف إلا متبوعاً بتذكير لازم بالعبءالأخلاقي الذي يثقل كاهله. ففي 10 اكتوبر 2003، نشرت صحيفة “ذي غارديان” الرصينة مقابلة للرجل عنونتها بهذا العنوان: “أنام بعمق”. بالطبع لم ينس المحرر أن يطرح تلك الاسئلة الحصرية حول المسؤولية الاخلاقية لكلاشنيكوف عن ابتكاره الأسطوري.

إذا كانت بندقية “ايه كي 47” مدانة وملعونة باعتبارها أداة للقتل، فإن ميزان الأخلاق يفرض إدانة كل أدوات القتل الشبيهة، لكننا لم نسمع أو نتذكر أننا قرأنا في يوم هجاء ولوماً أخلاقيا لمصممي بنادق “الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس” التي حكمت العالم، اللهم إلا إذا كان هناك من سيجادل بأن تلك الامبراطورية قد تم تشييدها بالورود والحلوى التي اهديت للملايين من شعوب البلدان المستعمرة.

وإذا كانت القواعد والمعايير الأخلاقية تفرض إدانة القتل وأدواته، فلماذا لم نقرأ في الصحافة الغربية أي إدانة لمبتكر رشاش “عوزي” الاسرائيلي، السلاح الرئيس للجيش الإسرائيلي الذي حصد أرواح الآف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين مثلا طيلة عقود وحتى اليوم؟ السلاح المفضل لدى عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية في أمريكا الذي تسبب في موت الآف من الامريكيين في بلد يحمي حق اقتناء السلاح بالدستور؟ السلاح المفضل لدى عصابات المخدرات في أمريكا اللاتينية؟

إن هذه الأسئلة قد لا تسعى لإجابات فورية، لكنها تحوم حول سلاح نموذجي ذو فعالية لا تضاهى: “التنميط”.

إن تنميط ميخائيل كلاشنيكوف وبندقيته، مستمد من فعاليتها المجربة وبساطتها. لكن ميزات التفوق هذه يجري توظيفها في معنى مختلف تماما بتحميلها وزراً أخلاقيا في موت ضحايا يقتلون بواسطتها كما لو أنها أداة القتل الوحيدة في العالم. وبينما يتم تناسي مبتكري الأسلحة الآخرين، فإن التركيز على كلاشنيكوف لن يكون له سوى معنى واحد هو “شيطنة” رجل أراد أن يخدم جيش بلاده بابتكار بندقية فعالة لكي يتمكن من الدفاع عن بلده ضد الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الثانية. وبينما تتحمل الأسلحة الأخرى مسؤولية موت ملايين من الضحايا أيضاً، فإن مخترعي هذه الاسلحة معفيون ومحصنون من المسؤولية الاخلاقية بالنسبة للصحافيين الغربيين، فهم ينامون مرتاحي الضمير لكن ليس كلاشنيكوف.

لا يتطلب التنميط أكثر من تكرار الجمل والمعاني استلهاماً لتعاليم الفذ بول جوزيف غوبلز. فالتكرار فقط هو ما يجعل القارئ يوقن بأن ما يقرأه “حقيقة”، أي بعبارة أخرى الصيغة الأكثر تداولاً بين الناس لما يسمى “الإجماع العام”.

التذكير المستمر بالمسؤولية الأخلاقية “المفترضة” لكلاشنيكوف له تتمة، عندما يوالي الصحافيون الغربيون إكمال حصيلة بحثهم في المعلومات بتذكير القراء بخلفيات أخرى تفيد بأنه على الرغم من أن الرجل لم يجن أية اموال من تصميمه، فإنه يملك حصة تبلغ 30% من شركات ألمانية تستخدم اسمه في بعض المنتجات: مظلات، سكاكين ومشروب الفودكا. لكن هذه الدقة والخلفيات لا تسعفهم لكي يتحدثوا بالمقابل عن المسؤولية الأخلاقية للسيد يوجين ستونر مصمم بندقية “ام 16” وبالأرقام أيضا، حيث يتناسون أنه يحصل على دولار واحد عن كل بندقية مباعة منذ أواخر الخمسينات وحتى اليوم.

مترجما عن غلف نيوز – 1 يناير 2014