مرام مكاوي
مرام مكاوي
كاتبة و أكاديمية سعودية

ملائكة وشياطين

آراء

قد يخطر في بال القارئ الكريم حالما يقرأ العنوان بأنني أنوي الإشارة إلى رواية الكاتب المعروف دان براون صاحب رواية شيفرة دافنشي المثيرة للجدل. إلا أنني في الواقع استعرت هذا العنوان لأشير إلى الطريقة التي يتعامل بها مجتمعنا بشقيه من أصحاب الصوت الأعلى، أي التيارين المحافظ والليبرالي، مع الكثير من قضاياه.

فالتيار الليبرالي يحاول تصوير المواطنين والمقيمين في هذا البلد على أنهم ملائكة ويجب تشريع القوانين وإباحة الكثير من الأمور وفق هذا التصور، والعكس صحيح في حالة التيار المحافظ الذي يكاد يقدم سوء الظن في كل أمر مما يستدعي تحريم جل الأمور ولو كانت مباحة سداً لذرائع الشيطان الكامن في داخل كل فرد! فلو أخذنا نظرة التيار الليبرالي لقضية الاختلاط مثلاً, لوجدناه يقول إنه يؤيده بشكل كلي أو شبه كلي، سواء في التعليم أو العمل أو نشاطات الحياة المختلفة، وأن الأمر طبيعي جداً وما هي إلا فترة بسيطة ويعتاده المجتمع ولا تكون لدينا أية مشكلات. ويتناسى أن ثمة فطرة ورغبات بشرية لا يمكن القضاء عليها بحال، تشهد بذلك أكثر المجتمعات انفتاحاً واختلاطاً، إذ ما زالت هناك تحرشات جنسية بالصغار والكبار في المدرسة والجامعة ومقر العمل، فالأستاذ ليس نبياً، ومدير الشركة ليس معصوماً، بل وحتى الطفل ليس بالضرورة بريئاً بالمطلق، وتجاهل هذه الحقائق، والتعامل مع المجتمع على أنه مجتمع من المعصومين الذين سيصنعون عالماً طوباوياً مدهشاً في حال منحوا الثقة فقط، هو اعتقاد فيه الكثير من الوهم والسذاجة المفرطة.

أما التيار المحافظ، فنظرته للمرأة متطرفة في الاتجاه المعاكس. بحيث يتخيل وقوع المعصية أو الفجور أو الجرائم بمجرد أن يأتي ذكرها، ويتجلى هذا الفكر في نظرته للمستشفيات مثلاً، والتي يطالب بعض أفراده من حين لآخر بفصلها، لأنه يتخيل أن الطبيب يأتي للمستشفى ليشبع شهواته، وأنه حين يقوم بالكشف على مريضة بسرطان الثدي مثلاً فهو يحقق من وراء ذلك متعة! ولو قُدر له الاطلاع على صورة لهذا المرض في كتاب طبي لشعر بالخجل من نفسه. هذه النظرة التي تفترض سلفاً الشر حتى في أماكن المرض والعلاج بل وفي أقدس البقاع، لديها تصور عن الإنسان بأنه شيطان في الأصل، فيجب كبحه طوال الوقت، وإلا هلك المجتمع.

الواقع يشهد بأن مجتمعنا ليس مكوناً لا من الملائكة المعصومين ولا من الشياطين الضالين، بل من البشر المجبولين على الخير بفطرة خالقهم، والذين ما زال الشيطان يغويهم ليضلوا، فتنتصر فطرتهم مرة، وقد يهزمهم الشيطان أو أعوانه في جولات أخرى، والمعركة بين الخير والشر مستمرة ما بقيت البشرية على ظهر الأرض. والقوانين والتشريعات والتنظيمات الإدارية والدساتير سواء الربانية أو حتى الوضعية إنما توضع وهي آخذة في الاعتبار أمرين: الأول، هو افتراض حسن النية في الإنسان والتعامل معه على هذا الأساس، والثاني، أن افتراض حسن النية لا يلغي وضع كوابح وقائية تمنعه من الانزلاق، وعقوبات رادعة في حال انزلق فعلياً بحيث لا يعاود هو الكرة، وبحيث يتعلم الآخرون أيضاً من خطئه.

ومن طرائف هذا التجاذب في النظر للناس على أنهم ملائكة لا بد من تركهم على هواهم أو شياطين لا بد من حبسهم، هو أن كل طرف يحكم على موضوع ما، فيباركه أو يشيطنه، بناءً على ما قرره الطرف المقابل، وليس بناءً على النظرة المجردة والدراسة المعمقة لاحتياجات المجتمع ولطبيعته، وواحدة من الأمثلة الكثيرة في هذا المجال هي قضية قيادة المرأة للسيارة. فمع وجود الكثير من المؤيدين والمعارضين عن قناعة، إلا أن النسبة الأعم من وجهة نظري تتخذ مواقف نفسية أكثر منها منطقية.
فبعض المؤيدين للإقرار الفوري دون تجهيز البيئة لم يجيبوا عن أسئلة مثل: كيف ستتعامل ورش السيارات ومحطات البنزين ومراكز الفحص الدوري ومراكز التوقيف في الشرطة ودوريات المرور مع المرأة السائقة؟ ولم يقولوا لنا ماذا سيحدث حين تتعطل سيارتها لا سيما على الخطوط السريعة وخارج المدن بل وحتى داخلها؟ هل لدينا خدمات صيانة وطوارئ خاصة بالمركبات تشترك معها بشكل سنوي، بحيث لو حصل لديها طارئ في أكثر رقعة نائية في البلد فإنه يكفي أن تتصل بهم ليصلوا إليها في دقائق ويحلوا مشكلتها من فورهم كما هو الحال في أوروبا وأمريكا وغيرها؟

أما المعارضون بالمطلق لهذا الحق النسائي وهو حرية التنقل لقضاء الحوائج، فهؤلاء لم يطرحوا للمرأة البدائل في ظل الوضع الراهن، حيث لا مواصلات عامة من أي نوع، ولا أماكن مناسبة حتى للمشاة، ولا سهولة في توظيف السائقين ومن ثم توفير متطلباتهم وأبسطها المسكن لامرأة تعيش وحيدة في شقة، مع حقيقة وجود نساء بلا محارم أو أزواج، ونساء أخريات مغتربات في مدن وقرى بعيدة لطلب الرزق، أو وجود محارم أو أزواج قد تخلوا عن مسؤولياتهم ولا يوجد من يجبرهم على إيصال قريباتهم للمدرسة أو الجامعة أو العمل أو السوق أو المستشفى أو البنك أو الدوائر الحكومية؟

فلو أن الطرف الثاني، بدأ بالمطالبة بتوفير البيئة اللوجستية المناسبة للقيادة، والإقرار بأنها لا يمكن أن تقر في ظل التشريعات والتنظيمات الحالية، وقبل إقرار قوانين واضحة ورادعة خاصة بالتحرش، ولو أن الطرف الثاني نزل من برجه العاجي وأدرك أن دراسة المرأة وعملها وخروجها من بيتها اليوم ما عاد ترفاً مقصوراً على شريحة ضئيلة مترفة، بل هو واقع معاش من قبل الكثير من نساء البلد، وبدأ بالتفكير في كيفية صياغة قوانين وتنظيمات تسمح بذلك وفي الوقت نفسه كيفية وضع روادع لمن في قلوبهم مرض، مع التأكيد من قبل التيارين معاً على وجوب توفير بدائل أخرى مختلفة لتنقل الرجال والنساء عبر توفير وسائل مواصلات عامة لائقة، لكنا اليوم قد تجاوزنا هذه القضية التي جعلناها تنافس في تعقيدها قضية فلسطين.

مجتمعنا ليس مجتمع ملائكة ولا مجتمع شياطين، وإنما هو مجتمع بشري فيه الكثير من كل شيء، وعليه أن يُعمل عقله ليجد حلولاً لمشكلاته وأن يخرج من أوهامه الحالمة بالطهر أو كوابيسه الموسومة بالعهر.

المصدر: الوطن أون لاين