سوسن الأبطح
سوسن الأبطح
كاتبة عربية

هل من سيرولنيك عربي؟

آراء

«يوم تخرجت، كنت ببغاء يحمل شهادة جامعية، لكنني بمرور الوقت تمكنت من تحرير نفسي بنفسي»، يقول بوريس سيرولنيك، الذي يعتبر اليوم واحداً من أشهر المحللين النفسيين، بعد أن طور نظريته حول «الولادة الإنسانية من رحم الألم». والرجل الذي صدر له منذ أيام الجزء الثاني من سيرته الذاتية، يستحق القراءة لفهم كم أن المعاناة الذاتية حين تتسلح بالمعرفة العميقة، كفيلان معاً بإنبات العشب في قاحل الصحراء. وسيرولنيك يقول بأنه شاهد بأم العين في ستينات القرن الماضي، كيف أن المريض النفسي كان يهمّش ويعامل بازدراء واحتقار في المستشفيات الفرنسية، ويستكثر عليه النوم في سرير، فيمدد على القش أرضاً. ومن أجل كسر حلقة عذابه الشخصي وتحرير الآخرين، بحث هذا الإثنولوجي المتخصص في الأعصاب، في كل علم لتحرير الإنسان، ولم يوفر الشعر ليستوحي من غموضه، ولا الرواية ليستكنه من شخصياتها ما لا يتاح له معرفته بعلاقته المباشرة مع مرضاه. هكذا تبدو المعرفة العلمية وهي تجسّر، مع الإنسانيات بفروعها وتشعباتها، هي السبيل لفتح آفاق جديدة للمعنى. سيرولنيك هو أحد النماذج العلمية الموسوعية التي باتت شائعة في العالم، ونفتقدها بيننا، وبالتالي نخسر بالتأكيد، قدرتنا على الخروج من دوامة الحلقة المفرغة التي ندور فيها. في كل مرة أقرأ فيها تحليلاً للمجازر القائمة في بلادنا يستند إلى العداوات التاريخية التي قسمت أهل المنطقة إلى سنة وشيعة وخوارج ومسيحيين ويهود، يبدو لي أن السماء تصبح سقفا حديديا يقترب من الأرض حد الإحساس بالاختناق. برأت الكنيسة اليهود في عهد البابا بولس السادس من تهمة قتل المسيح التي كلفت أتباع الدينين سفكا كثيرا، واحتل الألمان فرنسا وأذلوها، ورغم هذا شكل الثنائي بعد صلحهما التاريخي، نواة لاتحاد أوروبي بات يضم 28 دولة، ولا يزال العرب يجترون أحقادهم التاريخية، ويعتبرون استمرارها قدرا كتب عليهم. البغضاء لا تبني غداً والثأر لا يدمل جرحاً. يسأل الدكتور ساري حنفي، رئيس قسم العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية في بيروت، في حديث إذاعي، لماذا من أصل 3600 أكاديمي في الجامعات اللبنانية، ثمة 38 أكاديميا فقط يكتبون في الصحافة والرأي؟ ونقول له، لا بل إن عدد الأكاديميين يرتفع لأكثر من 5 آلاف، غالبيتهم الساحقة لا تريد الخروج من طور الببغائية وتكسر قيودها، وتشارك في تحرير مجتمعها، على طريقة سيرولنيك، وغيره ممن اجتهدوا وأثمروا. الشاشات التلفزيونية وصفحات الصحف العربية يحتلها محللون سياسيون وخبراء عسكريون، فيما ينكفئ أولئك القادرون على وضع اليد على الجرح. لماذا يتحول علماء الاجتماع إلى محللين سياسيين، مثلا؟ ما وجه الرفعة في ترك مجال غني ثري إلى بقعة يتهافت عليها المتطفلون والثرثارون حتى بات ما يقال فيها كلاماً ممجوجاً لا طائل منه، سوى تأجيج الصراعات وإضرام النيران.

لم يتكرر كثيراً، في المنطقة العربية، نموذج د. نبيل علي الذي بدأ مهندساً طياراً في سلاح الجو المصري، وقاده نهمه العلمي إلى علم الحواسيب ليصبح بعد ذلك أحد مؤسسي شركة «صخر»، ومن بين أهم المفكرين الذين عملوا بإصرار على جعل اللغة العربية موجودة على الكومبيوتر، وحيّة تكنولوجياً وعالمياً. كذلك لم نر جغرافيين كثراً بعبقرية جمال حمدان، صاحب الكتاب الشهير «شخصية مصر»، الذي تمكن من علمه واختصاصه ليبني رؤية استراتيجية متكاملة لبلده، وربما للمنطقة من خلال معرفة وثيقة ومنفتحة الآفاق بخريطة الإنسان المصري الذهنية والبيئية.

وهذه الأيام تحتفل «دار الجديد» بمئوية مفكر آخر من هذا الصنف الموسوعي، الذي نفتقده، وهو الشيخ عبد الله العلايلي، الذي بدأ بدراسة دينية تقليدية لكن تمكنه الباهر من اللغة والتاريخ، مع انفتاحه على تطورات عصره، وشغفه بالمشاركة بنهضة عربية جامعة، كل هذا استولد فيه مفكراً دينياً فذاً، طليعياً وثورياً، نحن اليوم أحوج ما نكون للاستنارة بفكره.

يفهم المرء أن نستورد أسلحة غربية ليقتل بعضنا بعضًا، لكن ما حاجتنا إلى اعتماد أرقام شركات إحصاء أميركية، تزودنا بعدد الملحدين والمؤمنين في المنطقة العربية، وتقوم الدنيا ولا تقعد، دون أن نفكر بأنه «ما حك جلدك مثل ظفرك». فشركة أميركية تقول عام 2009 إن عدد المؤمنين في مصر يصل إلى 100 في المائة لتأتي أخرى الآن وترى أن عدد الملحدين وصل إلى 3 في المائة، أي مليوني مصري، وتدور نقاشات ساخنة، مع التأكيد على أنه لا دراسة عربية حول الموضوع.

في مواجهة عالم باتت المعرفة الرياضية الحاسوبية، عماده وأساسه، لن يملك العرب أي فرصة لفهم ما يعيشونه من كوارث، إذا استمروا بتحميل التاريخ المسؤولية وبقوا يبحثون عن الحلول في قراءات سياسية سطحية وعابرة، دون امتلاك رؤى مستقبلية مبنية على قاعدة معرفية صلبة.

بالعودة إلى سيرولنيك، وخلاصاته العذبة والمقطرة التي قد تنفع أكثر مائة مرة من الهذر السياسي التلفزيوني، فالرجل ينصح بالتركيز على علم سلوك الحيوان الذي لا نعره اهتماماً في العادة، مع أنه مفيد للغاية لتقويم سلوكنا الإنساني. ويستنتج هذا العالم المسكون بفكرة تخفيض مستوى العنف، بعد دراسة على المزارعين وحيواناتهم «أن المزارعين الذين يقيمون علاقات عطف مع أبقارهم، قليلاً ما يصابون بانهيارات عصبية، أما أولئك الذين يتعاطون مع الحيوانات على أنها مجرد كائنات معدة للذبح أو البيع، فنسبة عالية بينهم تصاب باضطرابات نفسية، وتضطر للجوء إلى الأدوية المهدئة». ربما بتفهم هذا النوع من الدراسات وتعميم فائدتها على عموم الناس – بحسب سيرولنيك – يمكن للبشر أن يدركوا كم أن التعذيب والسفك ينقلب بعنف على مرتكبيه. فرفقاً بأنفسكم أيها الجزّارون!

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=791307