تحت قوس قزح في باريس: معالم العمارة قديمها وحديثها

منوعات

زيارة باريس ليست حدثاً اعتيادياً، بل هي من المناسبات التي يتذكرها الإنسان طول حياته. فهذه المدينة القديمة الجديدة تزود الزائر بجرعة من المتع الحسية والثقافية لا يمكن الحصول عليها في المدن الأخرى إلا في ما ندر. فالذي يهتم بالتأريخ والعمارة والفنون مثلي، ستشدّه عاصمة الأنوار إلى مشهد أو صوت أو حركة في كل دقيقة يقضيها هناك. كما لا نستطيع إهمال جانب مهم آخر، وهو المطبخ الفرنسي والذائقة الفرنسية في الطعام والشراب.

كانت زيارتي السريعة لباريس المرة الأخيرة في بداية الخريف، وتمكنت من توفير بضع ساعات للقيام بجولة قصيرة في المدينة حتى أتعرف إلى القليل من معالمها، فاخترت الجانب الأيسر من نهر السين. كان الطقس ماطراً لكنه دافئ، وكنت أتجول في مركز المدينة قرب كاتدرائية نوتردام، عندما ظهر في السماء قوس قزح كبير وجميل. وكان هذا أجمل هدية لجموع الباريسيين، وخصوصاً للسياح عند نوتردام، فما كنت أسمع سوى صوت طقطقة مئات آلات التصوير وهي تخلّد هذا الأثر الشهير وقد تلألأت خلفه ألوان الطيف الشمسي المتنوعة في قوس القزح.

وكاتدرائية نوتردام (سيدتنا) من أهم معالم باريس القديمة، بدأ تشييدها على جزيرة المدينة (Île de la Cité) وسط نهر السين على أنقاض كاتدرائية القديس أسطفان (وكانت بدورها قد بنيت في القرن الرابع فوق معبد وثني، وجُدد بناؤها في القرن السابع) من عام 1163 حتى 1320م. وهي بين نماذج العمارة والفنون المميزة للعصرين الوسيط والقوطي، ومن كنوزها بواباتها الثلاث في واجهتها (بوابة العذراء، وبوابة يوم الدين، وبوابة القديسة آن) حيث نقشت مشاهد دينية مختلفة وبنقش بديع. والشباك المدور (الروزية) على جهتها الشمالية هو من أشهر أمثلة العمارة القديمة، وقد أنجز في منتصف القرن الثالث عشر، وزيّن بالزجاج الملون المثبت بالرصاص، وهو الوحيد من ثلاثة شبابيك مماثلة الذي بقي على حالته الأصلية. وتزهو الكاتدرائية بواحد من أشهر أدوات الأورغن في العالم، وقد بدأ بناء الأورغن الكبير في القرن الثالث عشر، وتوسع على مر العصور حتى أخذ أبعاده وميزاته الحالية في القرن الثامن عشر، ويحتوي اليوم على ثمانية آلاف أنبوب. كما تشتهر أجراس الكاتدرائية العشرة، وأكبرها المسمى إيمانوئيل ويزن 13 طناً و271 كيلوغراماً.

تجولت كذلك في سان ميشيل قريباً من ضفة السين، على الجانب الأيسر قرب الكاتدرائية، وصعدت إلى التلة التي بني عليها البانثيون وهي تشرف على حدائق لوكسمبورغ الشهيرة. وعلى رغم أهمية البانثيون حيث يرقد عظماء فرنسا، شدتني واجهة مكتبة القديسة جنفياف أكثر، إذ نقشت عليها أسماء أجدادنا: الفارابي وإبن سينا وإبن رشد والفردوسي، سوية مع خيرة مفكري الإنسانية منذ العصر الوسيط. وتضم المكتبة ملايين الوثائق، ويعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، عندما أسس الملك كلوفيس ديراً أصبح يعرف لاحقاً باسم القديسة جنفياف.

ومنطقة البانثيون حافلة بالمباني الهامة، فأمامها يقع مبنى كلية الحقوق في جامعة باريس وعليه شعار الثورة الفرنسية الشهير: حرية مساواة أخوّة، الشعار الذي مسخه نابليون والكثير من الحكام الذين أتوا بعده. وثمة مبنى آخر أمام البانثيون، هو بلدية الدائرة الخامسة، وفي القرب مكتبة القديسة جنفياف المذكورة، وبرج كلوفيس الذي شيّد على الطراز الروماني.

وبعد أن عدت إلى ضفة النهر، مررت بعدد من الجسور الجميلة الشهيرة، أهمها الجسر الجديد (وهو الأقدم بين الجسور ويعود إلى عام 1607)، جسر كاروسل والجسر الملكي اللذان يعبران صوب متحف اللوفر، وجسر الكونكورد الذي يعبر إلى ساحة الكونكورد، وجسر الإنفاليد الواصل إلى الفندق المسمى بالاسم نفسه في الدائرة السابعة، وهو مجمع كبير يضم اليوم متاحف وآثاراً تخص التاريخ العسكري الفرنسي والتاريخ المعاصر وغيرها. يليه جسر ألما الذي دشّنه نابليون الثالث، ويصل من الناحية الثانية بساحة شارل ديغول (النجمة) حيث يقع قوس النصر. بعدها نصل إلى برج أيفل الذي يقع عنده جسر أيينا (أمر نابليون بتشييده تخليداً لمعركة أيينا عام 1806).

خلال مسيري على الضفة اليسرى لنهر السين، صادفني عدد من المباني الجميلة، مثل المعهد الفرنسي الذي تأسس في 1795، وهو مظلة تشرف على نحو ألف من المؤسسات وعلى المتاحف والقصور، ويتألف من خمس أكاديميات منها الأكاديمية الفرنسية وأكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون الجميلة.

ثم لمحت بناية ضخمة مهيبة، هي متحف أورساي، وكان في الأصل محطة قطار أورساي (بنيت بين 1898-1900) جرى تحويلها إلى متحف هو ثالث أهم متحف فرنسي بعد اللوفر ومركز بومبيدو، بسبب المجموعة الثمينة التي يمتلكها من أعمال أهم المدارس الفنية الحديثة الممتدة من 1848 حتى بداية الحرب العالمية الأولى 1914، بدءاً من الكلاسيكية الجديدة والرومنطيقية حتى الانطباعية والتعبيرية، مع مجموعة هامة من تصاميم مدرسة الفن الحديث التي سادت قبيل الحرب العالمية الأولى. ومن يود رؤية أعمال دولاكروا، مونيه، ديغا، مانيه، غوغان، تولوز – لوتريك والهولندي فان غوخ، لا مفر له من زيارة متحف أورساي الواقع في الدائرة السابعة على النهر مقابل اللوفر تقريباً.

تابعت السير على الضفة اليسرى للنهر، فوصلت مبنى الجمعية الوطنية الفرنسية عند جسر الكونكورد، المعروف بقصر بوربون الذي اكتمل بناؤه في العام 1728 ليكون قصراً لإبنة لويس الرابع عشر غير الشرعية فرانسواز-أتناييس دوقة بوربون. وأصبح القصر مقراً للجمعية الوطنية الفرنسية بعد الثورة. من معالمه الشهيرة رسوم الفنان الكبير يوجين دولاكروا على سقوف الصالة الملكية.

يبدأ من عند الجمعية الوطنية بولفار سان جرمان الشهير وطوله 3 كلم، وهو أحد أهم شوارع باريس لمروره عبر الحي اللاتيني، أحد مراكز الفنون في باريس، وحيث نجد عدداً كبيراً من أشهر مقاهي المدينة، وكذلك عدداً من الجامعات قربه وأهمها السوربون (باريس 4). وترتبط المنطقة التي يمر بها بالفلسفة الوجودية وبسارتر ودو بوفوار. ويخترق البولفار الدوائر الخامسة والسادسة والسابعة، وتقع بالقرب منه مباني بعض الوزارات.

أما لو واصلنا مسيرنا على النهر، فسنصل بعد قطع مسافة 1400 متر إلى برج أيفل الذي بني كمدخل لمعرض باريس الدولي عام 1889 وأصبح أهم معلم في فرنسا على الإطلاق ورمزاً للعاصمة.

وبالطبع لا يمكن من يزور باريس ألا يدخل مطعماً أو مقهى من مقاهيها الجميلة، لتناول ما يشتهيه من طعام أو شراب، مثل المعجنات الباريسية الشهية أو ليتذوق أنواع الجبنة الفرنسية المتنوعة. وهناك كثير من البوفيهات والمطاعم الصغيرة التي تقدم ألذ الأكلات الفرنسية، كما يمكن تناول أطعمة عالمية، إذ تنتشر هذه في كل مكان وغالباً ما تقدم البقاليات الوطنية أكلات البلد المعني، عربية أكانت أم شرق آسيوية… إلخ.

وتمتاز العاصمة الفرنسية بشبكة مواصلات عامة جيدة الكفاءة، وهي الأفضل في التنقل بالنسبة إلى السائح، بالخصوص قطار الأنفاق وشبكة القطارات السريعة، إذ تشهد الشوارع اختناقات مرورية بشكل متواصل ناهيك عن صعوبة الحصول على مكان لركن السيارات. وتبلغ كلفة التذكرة اليومية التي تجيز استعمال كل وسائط النقل (لمدة 24 ساعة) حوالى 7 يورو، والأسبوعية حوالى 18 يورو، والتذكرة الشهرية 59 يورو.

لم أنتقل إلى الضفة اليمنى للنهر، حيث توجد معالم شهيرة أخرى، مثل اللوفر والمونمارتر وقوس النصر وشارع الشانزليزيه، لكنني أعدكم بالكتابة عنها عندما أزور باريس المرة المقبلة.

باريس – ثائر صالح – الحياة