عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

هل هي علاقات حقيقية؟!

الأربعاء ٣١ يناير ٢٠٢٤

كتب أحد الأصدقاء واصفاً علاقات الصداقة التي تتكون من خلال مواقع التواصل، بأنها ليست سوى محاولة خاوية يؤسّسها الناس عبر الفضاء الإلكتروني لأنهم يعانون من فقر حقيقي في صلاتهم وعلاقاتهم الواقعية، لذلك يستعيضون عن (الملموس بالمحسوس، ويتشبثون بالبديل البعيد) مثل إنسان يؤسس ثروة بالاقتراض لا أكثر! هناك أسئلة كثيرة يمكن طرحها على هذه الظاهرة، فهذه العلاقات الناشئة من التواصل بين ملايين البشر عبر المواقع والتطبيقات قد ترتقي فعلاً لمرتبة الصداقة، والحب، وقد ينتج عنها صداقات وعلاقات وزيجات كذلك، لكن نجاح هذه العلاقات أو فشلها أمر آخر، لا يصح واقعياً وعلمياً تعميم نتيجة واحدة عليها جميعها، فهناك صداقات وعلاقات حقيقية وناضجة كذلك قد تنشأ فعلاً من الممارسات التفاعلية التي تتيحها مواقع التواصل لأعضائها ومتابعيها، كوضع علامات الإعجاب أو كتابة التعليقات والمشاركة بالرأي... إلخ! فعلى حساباتنا جميعاً هناك مترددون ثابتون، نجدهم أول من يبادر بالتفاعل والتعليق، وإذا تغيب يوماً سألوا عنك وتفقدوا سبب غيبتك، فإذا حلت ذكرى يوم ميلادك غمروا صفحتك بالورود والتهاني وأحياناً يفاجئك بعضهم برسائل وبطاقات وورود تجدها على باب منزلك، فلا تستغرب، إن القلوب إذا أحبت تفانت، والإنسان كائن باحث عن الألفة والمحبة، أنّى وجدهما سعى إليهما، قد لا يحبك كل الآلاف التي تتابعك، وبالتأكيد لن يكونوا جميعهم أصدقاءك، أنت لا تبحث عن ذلك حتماً ولا تتوقعه، لكنك لا…

أتغير!

الأحد ٢٨ يناير ٢٠٢٤

تذكر النجمة النرويجية ليف أولمن في الصفحات الأولى من كتاب سيرتها الشخصية ما يلي: «أحاول طوال الوقت أن أتغير، لأني أعلم علم اليقين أن هناك أكثر بكثير من الأشياء التي كنت قريبة منها. أريد أن أتوجه إلى هذا الاتجاه. أن أجد السكينة، لأتمكن من الجلوس والإنصات إلى ما يجري داخلي دون أي مؤثر دخيل» لذلك اختارت لكتابها عنوان (أتغير). وهي تكتب (السيناريو) الذي عاشته حقيقة، التفاصيل والمشاهد والمواقف والبشر الذين عبروا حياة امرأة هي في الحياة تقتات حياتها من التمثيل وارتداء الأدوار والأقنعة، إلا أنها حاولت بجهد وصدق واضحين أن تقدم الصورة التي ترى أنها تقولها وتعبر عنها بصدق، كما ترى هي نفسها لا كما تقدمها السينما والصحف ومقابلات التلفزيون وصفحات المجلات، لذلك ونحن نقرأ هذه السيرة بكل هذه السلاسة والانتقالية المختارة بدقة والانتقائية المختارة بحرص، نلمس قلب ليف أولمن وضميرها وإنسانيتها، لا صورة ممثلة المسرح والسينما كما رسمتها أضواء الشهرة المتوحشة والكاذبة أحياناً. تقول أولمن الممثلة والمخرجة النرويجية التي اشتهرت بكونها إحدى أعظم الممثلات الأوروبيات، إنك حين تكتب سيرتك فكأنما تقف أمام مرآة واسعة وتبدأ في نزع ثيابك قطعة قطعة، وهنا فإنك تصبح ضحية سهلة لتلصص الأصدقاء والأعداء وجامعي الفضائح، لأنك تكشف أسرارك أمام الجميع مختاراً، وهي تعلم ذلك جيداً، وتعلم ما قد تعانيه من ألم وندم، إلا أن…

القاهرة.. مدينة الحكايات

الأربعاء ٢٤ يناير ٢٠٢٤

القاهرة مدينة لا تشبهها مدينة أخرى، ليست أفضل ولا أسوأ، لكنها مدينة مختلفة، قد تختلف مع أشياء فيها، قد لا تعجبك في بعض أوجهها، قد تتبرم وقد.. وقد.. لكنك إذا أتيتها محباً غادرتها عاشقاً، ولن يطول بك الوقت فتحن إليها وتعود، لتصير شرياناً من ملايين الشرايين التي تجري في قلب القاهرة قبل أن تذوب مع السائرين في شوارعها وطرقاتها وداخل مقاهيها ومتاحفها و... القاهرة مدينة قيل فيها ما لم يقله مالك في الخمر، وما لم تقله قصائد الحب ولم تغنه حناجر كبار المغنين والمغنيات، لقد كتب الشرقيون والغربيون والمستشرقون عن مصر، عن حضارتها وإرثها وتراثها وثقافتها وحكامها وخفة روح الإنسان في بر مصر، فكانوا لا يؤرخون ولا يمدحون بقدر ما يكتبون بحثاً وتفتيشاً عن سر القاهرة، سر مصر، ولقد شغلني سؤال حول مصر طويلاً وفكرت في كتاب يجيب على السؤال: من صنع الآخر؟ من أتى أولاً الإنسان المصري أم مصر؟ مصر هبة النيل أم أن النيل هبة مصر؟ للإنسان المصري طبيعة لا تخطئها العين ولا تلتبس حولها الأذن، تلتقط لهجته سريعاً وسط مئات اللهجات، وتتعرف عليه بسهوله قبل أن يتحدث، ولعل هذا المصري سليل الحضارات وليس الحضارة الواحدة فقط هو قبل أي أمر آخر من يربطك بالقاهرة، فالمدن بأهلها، ولذلك نقول «مصر منورة بأهلها» إذا صادقت أو أنست من جانب…

الهاتف الذي لم يعد موجوداً!

الإثنين ٢٢ يناير ٢٠٢٤

هل تتذكرون متى رن الهاتف الأرضي في منزلكم آخر مرة؟ بعضكم سيستغرب أن هناك هاتفاً أرضياً أصلاً موصولاً بسلك ومثبتاً بالحائط، وأنه في قديم الزمان كان له قرص مرقم من 1 إلى 9، وأن المتصلين كانوا يديرون القرص خمس دورات ليجيبهم الطرف الآخر، ثم تحول القرص الدوار إلى أزرار، قبل أن يتحول الهاتف إلى لاسلكي يتنقل مع سيدة المنزل على وجه الخصوص من المطبخ إلى غرفة المعيشة، وفي نهاية اليوم يختفي بين حشوات الأرائك دون أن ينتبه أحد لاختفائه! الهاتف الأرضي بالنسبة لجيلنا وللأجيال اللاحقة كان الضرورة الحتمية التي لا يستغنى عنه، وغالباً ما كانت المكالمات عبره تستغرق ساعات من الزمن، لقد كان بهجة القلوب، ومرسال المودة، وصلة الوصل بين الأهل والأصحاب والأحباب، وكم دارت حوله معارك وتسبب في مشاكل وشكاوى، حتى لجأ البعض إلى وضع قفل على الهاتف ليمنع الأبناء والخدم من استخدام الصفر لإجراء مكالمات دولية، تتحول في فاتورة آخر الشهر إلى كارثة مالية تظل محل جدل لأكثر من شهر داخل المنزل وكل منزل! لقد كان للهاتف الأرضي سلك طويل جداً يسمح بإدخاله إلى غرف النوم لأغراض السرية! وكان دخول الهاتف إلى غرفة النوم نذير مشكلة كبيرة إذا لمحه الأب، لأن في الأمر ما فيه من خطر عظيم، لذلك كان الهاتف مراقباً داخلياً، وهنا تحضرني حكاية ذات دلالة…

كيف تنتهي العلاقات؟

الخميس ١١ يناير ٢٠٢٤

يتكرر هذا القول كثيراً هذه الأيام: «أخلاق الإنسان تكشفها نهاية العلاقة أكثر مما تكشفها البدايات» لأن البدايات دائماً شهية وحلوة، إنها دهشة الاكتشاف، وتدفق العاطفة، وجنون القبض على الأمنيات، وتحقق أحلام ربما لم يتخيل بعضنا أن بإمكانه أن يحلم بها فما باله بتحقيقها، هكذا تبدو البدايات: في الصداقة كما في الحب والزواج، والشراكات على اختلاف وتعدد مستوياتها، حيث يجتهد الشركاء لتقديم أنفسهم دائماً في صورة المثال الجدير بهذه العلاقة، كي يصل كلٌ منهم لمبتغاه، وحين يصل يتكشف له وللطرف الآخر أحد احتمالين: إما أنه جدير بالوصول وبالتالي بالثقة، وإما أن يسقط القناع، ويظهر ما تحته!! حين نمضي قدماً في أية علاقة، وحين نستمر في الرحلة كثيراً أو طويلاً دون تردد أو حتى إن نلتفت إلى الوراء لنرى أما زلنا قريبين من محطة الانطلاق أم لا؟ فإن لذلك أسبابه الكامنة فينا أو في الطرف الآخر أو في طبيعة وشكل الرحلة التي تجمعنا أو فينا جميعاً دفعة واحدة، ما يعني أننا التقينا لأننا ائتلفنا واتفقنا وكنا جديرين لأن نبقى معاً، أي أننا كنا نستحق بعضنا البعض، هذا لا يعني أن الرحلة كانت طريقاً مفروشاً بالورد، لكنه يعني أننا كنا حريصين على أن نكمل الطريق بأقل قدر من الخسائر على حساب العلاقة! إن الحرص على العلاقة واستمرارها ليس بالأمر السهل، لكنه يكون أقل…

جدتي التي غيرت عالمها!!

السبت ٠٦ يناير ٢٠٢٤

هل سألت نفسك يوماً إن كنت تحلم بتغيير العالم؟ أعرف كثيرين اعترفوا بأنهم في سنوات شبابهم الأولى راودهم شيء كهذا، أن يمتلكوا من السلطة والقوة والإيمان ما يجعلهم قادرين على تغيير العالم حولهم للأفضل، ليصبح هذا العالم أشبه بالجنة الموعودة، يفيض بالخير والعدالة، حيث الحقوق مكفولة، والمظالم ممنوعة، والسلام يجب أن يسود الحياة، والحق بقدر ما هو حلم مشروع وفاتن جداً، إلا أنه طوباوي أكثر مما تحتمله شراسة العلاقات الإنسانية وطبيعة الظروف والمصالح، لذلك فهكذا أحلام لم تتحقق أبداً! جدتي لم تكتب بياناً ثورياً في حياتها؛ لأنها لم تكن ثورية في أي يوم، ولم تعرف للكتابة سبيلاً، لكنها وبدون هذا الـ«مانيفيستو» والأحلام الكبيرة في التغيير، استطاعت أن تغير أشياء كثيرة حولها، كانت مع نساء حيّها يلتزمن بشكل دائم وثابت بتنظيف أزقة الحي، فلا يبقى زقاق، ولا بيت ولا مكان يمكن أن تلمح فيه أوساخاً أو قذارات من أي نوع، فكانت كل امرأة ملتزمة بتنظيف بيتها، وكنس المساحة التي أمام بيتها من الخارج، وكان ذلك كافياً ليشعّ الحي نظافة. لم تحتج المدينة في ذلك الزمن من سنوات الخمسينيات والستينيات، لغير قناعة راسخة كقناعة جدتي ودأب النساء وهمتهن العالية، ودون وجود للبلديات وعمال النظافة ومكبات تجميع القمامة، لقد كانت النظافة فكرة، والفكرة كانت كامنة في النفوس، لذلك لم تحتج جدتي يومها لبيان…

لا تصدق كل ما تسمع!

الأحد ٣١ ديسمبر ٢٠٢٣

كثيرون يقعون ضحايا التشويش الذهني ومحاولة تغيير أفكارهم وتوجهاتهم بطرق أقل ما يقال عنها إنها لا أخلاقية، كالكذب، وتحديداً على مواقع السوشال ميديا، لذلك علينا أن نحذر جداً ونحن نستلم مئات الرسائل يومياً عبر صفحاتنا على الفيسبوك والإنستغرام والسناب شات والتيك توك وعلى الواتس آب بشكل مستمر، والحذر يعني أولاً أن لا تصدق أي شيء تسمعه أو تراه دون أن تتأكد وتفكر وتراجع ما تسمعه! لماذا؟ لأنه قد ثبت وبالأدلة القاطعة أنهم نادرون جداً أولئك الأشخاص الذين يستخدمون السوشال ميديا رغبة في التواصل والتعارف واكتساب المعرفة وبعض المرح والضحك، فهذه من الأسباب المبررة لاستخدام منصات التواصل، أما الواقع فيؤكد أن معظم مستخدمي هذه الوسائل لهم أجندات وأهداف مصالح واضحة ومحددة ومرسومة سلفاً، وأخطرها تلك الأجندات الخفية والشيطانية، التي تقوم على بث الأكاذيب والإشاعات والفتن والحروب الإلكترونية.. إلخ! لذلك لا تعتقد أن من يحدثك في الثقافة يريد تثقيفك لوجه الله، نعم هناك من يجند نفسه لذلك، لكن هؤلاء قلة في خضم ملايين المنتفعين، لذلك احذر من شخص يزين لك كتاباً فيرفعه إلى هام السحاب وهو لا يعدو كونه كتاباً فارغاً، لأن ما يقوم به ليس سوى إعلان مدفوع الثمن لصالح دار النشر أو المؤلف أو المكتبة التي توزع الكتاب، فاقرأ واسأل ومحص الكلام قبل أن تذهب كحاطب ليل لتقتني كتاباً تلعن…

وظائف غريبة لم تسمع بها!

الأربعاء ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٣

في بلادنا، يعرف معظم الناس الوظائف التي سيعملون فيها منذ اللحظة التي يختارون فيها تخصصاتهم الجامعية، والتخصصات والوظائف التي ينخرط فيها معظمنا هي من ذلك النوع التقليدي أو المنتشر أو المتعارف عليه، وقد أزيد فأقول: إن هناك تخصصات تضمن وظائف ذات مكانة اجتماعية، ودخلاً مادياً مضموناً يفضلها الكثيرون كذلك! هناك أيضاً كثير من العائلات التي تدور بين أفرادها وظائف ومهن بعينها، تبدو وكأنها إرث عائلي، كمهنة المحاماة أو الطب والتجارة والقضاء والسياسية.. إلخ، والحقيقة أن توارث الوظائف كان ذات يوم حالة اجتماعية معروفة في بعض بلدان أوروبا ما قبل الثورات وإقرار الأنظمة الديمقراطية، كفرنسا مثلاً التي عد توارث وشراء الوظائف المرموقة شكلاً اجتماعياً دارجاً، ودليل فساد إداري في فرنسا ما قبل الثورة! مع تحولات المجتمعات، وتغير كل شيء في حياة البشرية، ظهرت مهن ووظائف لم تكن معروفة أو حتى مقبولة ذات يوم، لكن هناك من الوظائف ما لن يخطر على بالك عزيزي القارئ، وبالتأكيد لن تفكر في التقدم لها مهما كانت حاجتك ماسة للعمل، كما أن هناك وظائف لم تخطر ببالك يوماً، لكنها ستداعب خيالك حتماً ما إن تسمع بها، وبالرغم من ذلك، فهي صعبة المنال جداً! أغرب وظيفة لن تفكر فيها هي أن تعمل مدرباً للتماسيح مثلاً مطلوب منك أن تضع رأسك بين فكي تمساح، أو منظفاً لأماكن ومسارح…

بماذا يهتم الناس عادة ؟؟

الجمعة ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٣

قال لي أحد القراء، هناك تعليقات كثيرة جداً على هذا المقال، يقصد مقال البارحة حول عدم التزام الكثير من النساء والرجال بالآداب والتعليمات الخاصة بالملابس في الأماكن التي يفترض أن يرتدي فيها الإنسان ملابس تتوافر فيها مقومات الأدب والاحترام والذوق، وكانت إجابتي ببساطة أن الناس في كل الدنيا يهتمون بما يعنيهم، أو ما يشكل لهم هاجساً معيناً، وما يتداخل مع مصالحهم وأمور دنياهم الآنية والمباشرة، لهذا يتفاعلون مع كل أمر شديد وقريب الصلة والتلامس مع واقعهم، ولا يعيرون أي التفات أو انتباه لكل شأن بعيد عنهم ولا ينعكس عليهم أو على مصالحهم أو محيطهم القريب! الناس ستقيم الدنيا ولن تقعدها عندما ستزيد أسعار الطماطم أو الأرز أو الطحين أو البترول مثلاً، وستظل تتابع كل ما يكتب حول هذه السلع الحيوية التي لا تستقيم حياتهم بدونها، وأي ارتفاع في أسعارها سيؤثر عليهم حتماً، والأمر ينطبق على تجاوز قواعد الاحتشام من قبل غير المواطنين رجالاً ونساء، فهناك للأسف رجال يحضرون للمراكز التجارية والمستشفيات والجمعيات التعاونية بثياب غير لائقة! لا بد أيضاً من الرد على من يقول إن اللباس مسألة شخصية والإنسان حر فيما يلبس !! لهؤلاء نقول بأن حرية الإنسان المطلقة في بيته، في فضائه الخاص به عندما يختلي بنفسه، أما في الفضاء العام حيث يتشارك المكان مع الآخرين فالمطلوب منه، بحكم…

الكتابة فعل نجاة!

الأحد ١٩ نوفمبر ٢٠٢٣

في كل مكان، وفي كل الأوقات الصعبة التي مرت على البشرية، لم يحصل أن احتمل الإنسان منفرداً تلك الكوارث والمصائب التي مرت به، فغالباً ما كانت للكارثة أدبياتها وسلوكياتها التي تستدعي تعاطفاً جمعياً يلتف عليها، لتمر بأقل قدر من الألم والأوجاع والجراحات. وفي كل تاريخ الكارثة، ظل الإنسان قادراً على الدوام على إنتاج أفعال تكون له منارة وحبل نجاة، ولعل الكتابة إحدى تلك المنارات، حيث يقف الأدب رافعة قوية، يقول كل ما يجب، وبأكثر الطرق قوة، وحفراً في القلوب والأرواح، وتفعل السينما والشعر والمسرح الشيء نفسه.. فهذه الوسائل الأشبه بالملاذات التي تركن لها البشرية، إذا عزّت الكلمة، وتراكمت المحن، وكثرت الفتن، وصار اليقين مستحيلاً! تصبح الصورة أقوى من الكلام، والفيلم أشبه بالرصاصة، والقصيدة نجمة مسافرة، لا تقف في وجهها قوانين الرقابة، بينما تتسرب الأغنية كاتفاق جماعي يندس في حناجر الناس، فتحولهم لعاصفة أو زلزال، فهي مقاومتهم الوحيدة في وجه اليأس الذي يخنق إراداتهم. إن الناس في كل الكوارث والأزمات، حتى تلك التي لا تخصهم شخصياً أو مباشرة، ولا تقع في فناء منازلهم وغرف نومهم، لكنها تقع في فناء الإنسانية الكبير، وفي مرمى قضاياهم ومبادئهم ومعتقداتهم، يحتاجون لهواء آخر يتنفسونه، يريدون أن يكونوا إلى جانب هذه القضايا، تمسكاً بإنسانيتهم، ولكونهم بشراً طبيعيين، معنيين بآلام ودموع وآهات إخوتهم وبني جلدتهم، إنهم يصرخون…

كيف تفوز بجائزة نوبل؟

الثلاثاء ١٠ أكتوبر ٢٠٢٣

يقول يون فوسه، الكاتب والمسرحي الذي تمكن من اقتناص جائزة نوبل هذا العام عن مجمل أعماله المسرحية والشعرية: «أكتب بلغة لا يتكلمها سوى خمسمائة ألف شخص، وهي لغة أقليّة مكروهة؛ لأنها إجبارية في المدرسة، بالنسبة إليَّ، إنها صوت جدتي وأمي، إنها لغة نظيفة جداً، مثابرة، ولم تتأثر بالدعاية ولا بلغة الأعمال». لقد بقي هذا الكاتب، ولعقود طويلة مجهولاً بالنسبة لقراء العربية، فلم تترجم له سوى روايتين أو ثلاث ربما، وحتى هذه الروايات لم تحظَ بمقرؤية جيدة بسبب ذائقتها المختلفة. لقد بقي (فوسه) محتفظاً بانتمائه لتلك اللغة التي يصفها بأنها برغم أنها مكروهة فهي «صوت جدته وأمه» ومع ذلك فقد ترجمت أعماله لـ 40 لغة حول العالم، ما يذكرنا بنجيب محفوظ الذي حمل هوية الحارة المصرية إلى العالم عبر لغته الخاصة. يعيدنا (فوسه) إلى سؤال الهوية في الأدب وطريقة التلقي لدى القارئ وخاصة القارئ غير المعني بهذه اللغة وما تعبر عنه، لقد كان الرجل حريصاً على أن يكتب بلغته، التي هي صوت محيطه، والمجاز الوحيد لنقل ثقافته وبيئته وأفكاره للعالم دون أي شعور بالاغتراب أو الدونية إزاء هذه اللغة، متجاوزاً بوعي سؤال القبول والتلقي كما يفعل كل من يبرر لنفسه الهروب من حكايته وصوت آبائه وأجداده، لأن الحياة التي يندمج فيها (فوسه) هي حياته الواقعية وليست حياة سائلة ومستنسخة تشبه حياة…

أدب لا يحرك الدمى!

السبت ٠٧ أكتوبر ٢٠٢٣

في شتاء العام 1879 شهد المسرح الملكي الدنماركي في كوبنهاجن عرض مسرحية بيت الدمية للكاتب المسرحي هنريك إبسن، وبعد عرضها ثارت موجة جدل عارمة في المجتمع الدنماركي، لقد ظهرت المسرحية وكأنها دعوة مباشرة للمرأة في تلك السنوات البعيدة «منذ 144 عاماً تقريباً» للتمرد وترك بيتها وزوجها وأبنائها من أجل البحث عن ذاتها وحقوقها التي لم يكن المجتمع في ذلك الوقت يعترف بها أو حتى يقيم لها وزناً. كان مشهد البطلة «نورا» وهي تغادر المنزل صافقة الباب خلفها مخلفة زوجها في حالة ذهول صادم للذهنية الذكورية التي اعتادت أن تكون المرجعية في الحكم والتقييم النهائي لسلوك المرأة وعلاقاتها ومجمل حركتها في المجتمع، لقد أطاح إبسن بمكانة هذه الذهنية ومرجعيتها، عندما جعل بطلته تحطم بيت الدمية وتتمرد على دور الدمية فيه. تعرفت على هذه المسرحية من خلال مسلسل بعنوان «حول غرفتي» كانت بطلته تقرأ الروايات والكتب وهي طريحة الفراش، ثم قرأتها فترة الجامعة، وتلمست قوة الفكرة في مسرح إبسن، فحين نظر البعض للمسرحية باعتبارها صرخة باتجاه حقوق المرأة نفى الكاتب ذلك قائلاً: «لم أكتبها لهذا الغرض، لكنني أردت أن أرسم صورة واقعية لحياة الإنسان» ما يعني أن المسرحية لا تدور حول حقوق المرأة فقط، ولكن حول حاجة كل فرد للعثور على ذاته والسعي لفهم حقيقة هذه الذات وما نسعى له. يبرز وجه…