الأربعاء ٢٨ أغسطس ٢٠٢٤
البعض يمتلك مقدرات مثيرة في تحوير الكلام وتوجيهه إلى مناطق بعيدة جداً لا تمت بصلة إلى أصل الحديث، فيجد الشخص المقابل نفسه وقد أسقط في يده، مضطراً للرد والدفاع بحيرة وندم عن أمور لم يطرحها أساساً! وهذا يحدث كثيراً للأسف في النقاشات الاجتماعية التي تغلب فيها العواطف ويغيب المنطق، مما يتسبب بتحييد النقاش عن هدفه الأساسي وإعاقة التواصل، وعادة ما يكون سببها عدم الانتباه. المثير أني وجدتها أيضاً في أماكن لا يصح فيها عدم الانتباه، كمناقشات العمل وحوارات المثقفين، وسجالات مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت أيضاً أنها تستخدم بذكاء ممنهج، وبأطروحات مدروسة بهدف الاحتيال الفكري لكسب حوار أو إحراج خصم في سبيل تحقيق دوافع مختلفة وشتى، ويسمى هذا النهج في تحوير الكلام (مغالطة رجل القش). ورجل القش هو ذلك الهيكل على هيئة رجل محشو بالقش يستخدم لإخافة الطيور وإبعادها عن الزرع، أطلقه أهل المنطق على من يقوم بإعطاء انطباع برد منطقي وقوي على حجة خصمه، في حين أن ما رد عليه لم يطرحه الخصم أساساً. وعادة ما يتم الرد عليه هو أمر هش واضح الضعف فيسهل إيجاد أخطائه وتبيان ضعفه. في علم المنطق هناك عدد من «المغالطات» - خمسون مغالطة تقريباً - يجب أن يدركها الدارس، كونه علماً يقوم القواعد والطرق التي تنظم وتحدد مناهج التفكير والاستدلال السليم، ووجود هذه المغالطات…
الأربعاء ٢١ أغسطس ٢٠٢٤
تفرض تلك النقاط الثلاث نفسها والتي تستخدم للإشارة إلى العلاقة المنطقية في الرياضيات (بما أن) و(إذاً)، ويقصد بها وجوب المقدمات للحصول على النتائج، أجدها أمامي تتراقص تارة على شكل وجه ضاحك وتارة يبكي كلما وجدت أماً أو أباً يخبر عن ردود أبنائهم عندما يحاولون توجيههم لأمور معينة. عندما يطلب من ولده مثلاً أن يجتهد في دراسته، لكي يستطيع أن يكمل حياته معتمداً على نفسه، فيخبرك أنه لا يحتاج إلى ذلك، فالأمر بسيط بوجود بطاقة السحب الآلي. أو أن تخبرك ابنتك عندما تحاولين إقناعها بتعلم طريق لإعداد الطعام لنفسها فتتساءل لماذا.. وأين الـ «دليفري». وحالي كذلك فلا أعلم هل أضحك أم أبكي على ما ابتلينا به من اضطرار للتعامل مع عقول انتهجت تلك الطريقة نبراساً لتفكيرٍ غير منطقي. فالحصول على المال لا يستوجب التعب في جمعه، والحصول على الرشاقة لا يستوجب جهداً لصقل الجسم، والحصول على الشهرة لا يستوجب سعياً للنجاح، وهكذا الأمر في متوالية غير المستوجبات لحدوث التحقق. لقد أدى غياب المنطق وضياع التراتبية والمقدمات الضرورية إلى قفز جيل كامل على المستلزمات، وأصبح انتظار النتائج وكأنها مسلمات أمراً حتمياً، وستسقط لا محالة من السماء من دون بذل جهد! ولا أدري إلى أي مدى نحن مدركون لخطورة هذه المسألة على مستقبلنا. في مقطع فيديو يبرر فيه لاعب كرة القدم البرتغالي «كريستيانو…
الأربعاء ١٩ يونيو ٢٠٢٤
كثيراً ما كنت أنزعج عندما اضطر إلى استرجاع «حدث ما» مع آخرين شهدوه معي في الوقت نفسه، وذلك لتباين ما نسترجعه بدرجات كبيرة حد الاختلاف أحياناً، وطالما شغلني هذا الأمر، وملأني شكاً في مصداقية الآخرين، ودائماً ما كانت أمامي تفسيرات متعددة تدور جلها في تعمد الآخرين تغيير مجريات الحدث لنوايا مختلفة. بقيت على حالي هذه حتى قرأت عن نظرية علمية حاول علماء النفس تفسيرها عبر دراسات مستفيضة حول الذاكرة، تضمنت تجارب متعددة في إطار زمني بسيط. في البداية علينا أن نعرف أن «عملية التذكر» لا تعني استرجاع ما تم تصويره صوتاً وصورة عبر كاميرا رقمية تسجل الواقع الفعلي، وإنما هي مجموع عمليات يقوم بها الدماغ، تبدأ بالإدراك، ومن ثم التخزين، وبعدها الاسترجاع، وهي عمليات يشوبها الكثير من التأثيرات التي لا تجعلها متشابهة بين من يقومون بها، وهنا تأتي النظرية لتقول لنا: إنه وقبل الإدراك هناك ما يسمى بالخبرة السابقة، والتي ستؤثر حتماً في شكل الإدراك، أي ما ستلتقيه الحواس وتخزنه، والتي تعمل أيضاً بمستويات مختلفة من الدقة في معظم الأوقات. وهذا يعني أن بيئتي وخبراتي السابقة، وكذلك حاجاتي ومصالحي ستجعل إدراكي للأمر (الواقعة) يختلف عن إدراك آخرين شهدوها، والذين بطبيعة الحال تعمل حواسهم بشكل مختلف ومتباين، إذ ذاكراتنا متباينة جداً، تلتقط ما حولها بطريقة انتقائية، وتعمل من دون تدخل مسبق…
الأربعاء ١٢ يونيو ٢٠٢٤
إنه قارئي الأول والوحيد الذي سيرافقني أينما حللت باسمه الذي يلاحق اسمي، سيبقى رفيقي بوقار، ليخبرني دوماً أنه يدعمني حتى لو لم ألتفت، فأنا متأكدة من أن «أبي» خلفي. هكذا عهدته دوماً، أدرك تماماً كيف يتحدث عني، وماذا يخبر كل من يقابلهم عما أفعله، أعلم أن أحداً لن يتحدث عني كما فعل، سأبقى متأكدة من أنني كلما تذكرت منجزاً لي سأشعر بغيابه وفقده، وكلما قرأت شيئاً سأتذكر أنه أول من ابتهج بتأتآتي، وكلما كتبت سأفتقد احتفاله بسطوري الأولى! أحاول منذ شهر الهروب من الكتابة، كأني أتداوى بتجنبها، أنشغل بكل شيء يلهيني عن النظر إلى تلك المساحة البيضاء التي تجبرني على التفكير بما أشعر به، أتملص من وجعي.. أحاول تجاوزه.. بلا فائدة. لا أمانع في التعاطي مع أي شيء.. فقط مشاعري بأوجاعها لا أود الاقتراب منها، فكيف بكتابتها وعرضها؟! الآن أجد نفسي مجبرة على استيعاب هذه السرعة التي ذهبت بها الأمور، منذ دوي سيارة الإسعاف وحتى نحيب شقيقتي، وهي تخبرني برحيل والدي.. ومازلت غير مستوعبة حقيقة ذلك الغياب. الغياب الثقيل.. الضيف الذي سيأتي لا محالة مهما تجاهلته وانشغلت عنه، سيأتي بثقل ظله جاثماً عليك، مجتراً كل الماضي بتفاصيله الدقيقة وكأنها حدثت للتو. إنه «الغياب» الذي يحضر بقسوة أمامنا على عتبات الحياة، فتجده يبتسم لك باستهزاء لأنك انشغلت بكل شيء تقريباً، وتعلقت…
الأربعاء ١٧ أبريل ٢٠٢٤
يقول «ايكهارت تول»، أحد أشهر فلاسفة العصر الحالي، إن في حقل الطاقة الخاص بكل واحد فينا، يوجد «ألم عاطفي» متوارث. هذا الألم يجمع جزءاً من الآلام التي عاشها والدانا أو مجتمعنا، أو حتى العرق أو الجنس الذي ننتمي إليه. وهو ألم ناتج عن مشاعر ندم أو إحساس بالظلم أو شعور بالذنب.. إلخ، ورغم موت أصحاب هذه المشاعر إلا أن مشاعرهم التي ورثناها تظل كامنة فينا، بل ومستنفرة طوال الوقت تنتظر المؤثرات المحيطة لكي تتغذى عليها لتنمو وتبقى، ولتصبح فيما بعد قادرة على الانتقال إلى الآخرين، كالأبناء أو المحيطين بنا.. بلا أدنى ذنب لنا، وبطبيعة الحال ما نورثه للآخرين بلا ذنب لهم. يؤكد الفيلسوف الألماني أن كل ما يستطيعه الإنسان أمام تلك الكتلة الموروثة، أن «يتوقف عن تغذيتها بأفكار وعواطف سلبية جديدة تضخمها، فتقلب حياته وحياة من حوله إلى تعاسة»، ولكن هل يمكن حقاً أن يحدث ذلك؟ إن «كتلة الألم» سريعاً ما تجد غذاءها من التجارب المؤلمة التي يمر بها الإنسان جبراً منذ طفولته، وخصوصاً أن الوعي في هذه المرحلة يكون في أضعف حالاته ما يزيد من شراهة «الكتلة». وعندما نكبر، تكبر معنا «كتلنا» التي تجد في الطبيعة الإنسانية النازعة دوماً إلى تأبيد الذكريات والمكوث طويلاً في الماضي، مجالاً حيوياً للبقاء، وكل تجربة مؤلمة تمر علينا تشكل غذاء مناسباً لها قبل…
الأربعاء ٢١ فبراير ٢٠٢٤
كتبت كثيراً عن المشاعر الإنسانية والسلوك التابع لها سواء من صاحب المشاعر أو ردات فعل من حوله بشأنها. وهو ما أجده باستمرار أعجب ما يمكن أن يستوقفني في الحياة، فذلك الطيف الذي يتحرك في صدورنا بهدوء وراء كل ما نشهده من تقدم أو تخلف.. إبداع أو خراب. وقناعتي راسخة بأن السر الكوني يكمن في تلك المشاعر الخفية التي تنمو في غفلة من صاحبها لتكبر وتتغذى وتتحول إلى سلوك يؤثر على الكون برمته لا على صاحبه فقط؛ ولذا تتركز نظرتي إلى الكثير من المواقف حولي على نقطة المشاعر التي يتخطاها الأغلب! هذا الأسبوع استوقفني مشهد في غاية الغرابة، تحدثت بشأنه أكثر من مرة مع أشخاص مختلفين ثقافياً لعلي أسمع أمراً مغايراً لم أستوضحه يعيدني لتقويم رأيي، وأردت أن أطرحه هنا لعله يصلني ما يغير موقفي. وصلني «فيديو كليب» قصير لأحدهم يتحدث هاتفياً مع رجل دين عن زوجته، ويخبره عما فعله بهذه المرأة التي قضى معها 21 عاماً، وكانت حياته طيبة إلى أن قرر أن يتزوج بأخرى، فرفضت الزوجة ذلك وأخبرته أنها لن تقبل بشريكة، وعليه أن يطلقها إذا مضى في قراره، فطلب منها أن تبرئه من حقوقها، فرفضت، فقام بطردها من منزلها، وأخذ كل ما لديها بحجة رغبته في تعجيزها وجبرها على قبول زواجه الثاني! القصة عادية جداً وقد تتكرر…
الأربعاء ٢٤ يناير ٢٠٢٤
لعل من أكثر العبارات التي تغيظني رغم واقعيتها تلك التي تقول: «الإلهام موجود طوال الوقت حولنا.. فقط ينتظر من يكتشفه». الحقيقة أن البحث عن الإلهام ديدن كل مبدع مهما كانت نوعية الإبداع الذي ينتجه، وهو أمر في حدوثه صعب للغاية ومرهق يشبه المخاض الطويل، ولكنه يستحق العناء، فعادة ما تكون النتيجة الوليدة مبهرة لأولئك الجادين الذين يجاهدون أنفسهم بإصرار ولا يستسلمون بسهولة. عن نفسي ورغم سنوات الكتابة الطويلة أعيش فترات أعاني منها غياب الإلهام، ولهذا أجدني أشعر بالحنق الشديد من تلك العبارة التي أوردتها سابقاً، إذ كيف يكون الشيء حولي ولا أجده؟ وكيف أجده في أوقات ما بهذا الزخم! الإلهام ذاك الشعور الذي يتيح لك الرؤية الشاملة لما وراء أشياء كنت تراها بسيطة، والمبدع هو ذلك الشخص الذي ترجم هذه الرؤية الشاملة إلى شيء جديد لا تراه العين العابرة لذات الشيء. وعادة ما يكون غير متوقع، ولهذا فالبحث في أجوبة لأسئلة لا يسألها الناس عادة باعتبارها مسلّمات، يعد أحد مفاتيح الإلهام. ومن مفاتيح الإلهام أيضاً النظر للأشياء العادية بطريقة فيها انبهار، بمعنى أن لا تستسلم لعاديتها وابحث عن الجميل والمثير في الأحاديث والأفعال وحتى في السكون، في الأشكال والألوان والأصوات والروائح؛ كلها نوافذ لإشراقات عظيمة قابلة للتحقق. التأمل في أحوال الناس أحد أقوى منافذ الإلهام للكاتب على وجه الخصوص، ولهذا…
الأربعاء ١١ أكتوبر ٢٠٢٣
خلال رحلتنا في الحياة تمر علينا نعم كثيرة لا يدركها أي كان، إذ يتعامل الناس مع وجود بعضها كأمر حتمي وطبيعي، بل إن بعضنا لا يلحظها رغم أن كل ما هو موجود يترتب عليها أساساً وقد تختفي بسبب غياب تلك النعمة بين ليلة وضحاها، كنعمة الأمن. في سلم أولويات الحاجات الإنسانية تأتي الحاجة للأمن في المرتبة الثانية تسبقها الحاجة للبقاء، أي أن حاجتنا لنبقى أحياء تتبعها مباشرة أن تكون حياتنا هذه آمنة. ويعني المفهوم الإنساني للأمن تلك القدرة على العيش في محيط يضمن فيه الفرد سلامته الجسدية من العنف والاعتداء، وسلامة ممتلكاته من السرقة والتخريب، وأمن محيطه بما يضمن أمنه النفسي. المثير فعلاً أنه في سلم الاحتياجات الإنسانية -خصوصاً الذي وضعه «ماسلو» ويعتمد على التراتبية في بناء الحاجات- كل الحاجات تعتمد على توافر عنصر الأمن والأمان، سواء الحاجات السابقة لها أو اللاحقة، على سبيل المثال من أول الحاجات الفسيولوجية التي توفر عنصر البقاء للإنسان هي الحاجة للغذاء، ولكن كيف للإنسان أن يوفر طعامه لنفسه إذا لم يكن آمناً في رحلة بحثه عنه.. وهكذا. فما بالك بالحاجات اللاحقة كالحاجات الاجتماعية والتواصل وحاجات التقدير وحاجات تحقيق الذات، التي يبدو الحديث عنها نوعاً من العبث في حالة عدم توافر الأمن الذي لا يمكن أن يوجد بالصدفة أو بالعادة، بل يحتاج إلى نوايا وقدرات…
الأربعاء ٢٣ أغسطس ٢٠٢٣
إحدى أكثر الفوائد التي قدمها عالم التواصل الاجتماعي لعالم الأدب، تلك القدرة غير المحدودة في اطلاعنا على رؤى الآخرين المختلفة والصادقة جداً حول ذات الإبداع. ويعد «جود ريدز» الشبكة الاجتماعية الأشهر عالمياً في عرض الكتب ومراجعاتها، من أهم المواقع التي توضح مدى الاختلافات الكبيرة في إدراكنا واستيعابنا لأي عمل إبداعي؛ عبر عرضه لآراء القراء المتباينة والتي مع تعددها تكمل حضور العمل وتتوجه. بل إن بعض ما نجده في هذا الموقع من مراجعات قابلة لأن تكون عملاً إبداعياً جديداً منفصلاً عن العمل الأصلي. ولأن أي عملية إبداع لا تكتمل بدون متلقٍّ متفاعل، تبدو القراءة بالذات أكثر صنوف الإبداع المرتبطة بهذه المتلازمة؛ فالقراءة معادل الكتابة، وتلقيها الأعمق لا يكون بأشكال قراءة مختلفة فقط، وإنما بقراءة منتجة أيضاً، إذ إنها كثيراً ما تتحول إلى عملية فاعلة وحية بشكل قد يتجاوز إبداع النص المقروء. يحدث ذلك عندما تتوالى الأزمنة وتتراكم الثقافات على قارئ النص، فيأتي متلقٍ في زمن آخر ليفك النص بقراءة جديدة تتجاوز ما جاد به النص في زمن كتابته. يحدث ذلك وأكثر لأن النص المقروء لا يمكن أن يكون منفصلاً عن مشاعر وتطلعات ومخزون القارئ الفكري، إضافةً لظروفه الزمانية والمكانية، وهي عناصر تختلف بالتأكيد من شخص لآخر، وبالتالي فإن تفسير النص أو تأويلاته بناء على ذلك لا يمكن أن تتطابق! وقد يحدث…
الأربعاء ١٦ أغسطس ٢٠٢٣
اضطررت منذ فترة قصيرة للتخلص من بعض الموجودات الباهظة التي كنت أمنّي نفسي بسعادة بالغة قبل امتلاكها. في البداية كان الأمر في غاية الصعوبة وغلبني تأنيب ضمير وشعور بالغ بالهدر الذي كنت أراه أحياناً في سلوكيات الآخرين، ولم يخفف من حالتي تلك إلا أن الموجودات ذهبت لأشخاص أحبهم وأعتقد أنها ستفي بغرض لديهم. ولكن يبدو أن هناك دواعي أخرى كانت ستجعلني أكثر سعادة بقرار التخلص لو كنت قد فكرت فيها كما تعتقد اليابانية «ماري كوندو» في كتابها The Life-Changing Magic of Tidying والمتوافر باسم سحر الترتيب في المكتبات العربية. تشرح «ماري» في كتابها -الذي طُبعت منه ملايين النسخ بلغات العالم- كيف يمكن لترتيب محيطنا المادي أن يخلصنا من الفوضى النفسية قبل المادية، وأن السر يكمن في الطريقة التي نرتب بها أشياءنا، والتي تعتمد أساساً على فكرة «التخلص» بتقدير! فحسب ما واجهته الكاتبة في الميدان العملي، أن أصعب ما يعرقل تقدمنا في عملية الترتيب تلك الرغبة القوية التي تعترينا في التمسك بالأشياء والاحتفاظ بها لدواعي شتى، ولهذا فهي تشرح كيف لنا أن نتجاوز تلك العقبة، وما علينا فعله عندما نعجز عن فعل الترك، عبر «التخلص بتقدير»، وهو مفتاح السر الحقيقي في عملية الترتيب، وهذا ما وجدته أكثر الأفكار إثارة في الكتاب، إذ كيف لنا أن نُكن التقدير لما نقوم بالتخلص منه،…
الأربعاء ١٠ مايو ٢٠٢٣
عادة عندما كنت رئيسة تحرير إحدى المجلات العلمية، كان قراء المجلة يتواصلون مع فريق التحرير بشكل مباشر، ومعي بشكل خاص كلما سمحت الفرصة لذلك، ولهذا أحمل كماً كبيراً من الذكريات الجميلة والمواقف الطريفة التي أسترجعها من وقت لآخر بامتنان غير محدود. إحدى تلك الذكريات، والتي تذكرتها مؤخراً لسبب معاكس تماماً، تعليق شاب لن أنساه أبداً قابلته في معرض أبوظبي للكتاب، وقد بدا في منتصف الثلاثينيات، أخذ يقول لي وقد ملأه الحماس: «بَحس حالي إنسان محترم كل مَرة بشتري فيها المجلة». في رأيي أن هذا أجمل ما سمعته حول علاقة إنسان بشيء يقرؤه، ورغم تهكم البعض على قوله، إلا أني وجدت فيه أبلغ تعبير عن التأثير الحقيقي للمجلة على قُرائها، ذلك التأثير الذي يرفع من تقدير الإنسان لذاته وبمعنى آخر «احترام النفس». أتساءل بصدق حول شعور البعض تجاه أنفسهم حول ما يقضون فيه أوقاتهم أمام أو حول هذا الكم العظيم من الملهيّات التي قد ينتجونها من المحتويات التافهة، أو ما قد يتعرضون له من محتوى لا جدوي فيه، بل وما يدفعونه مقابل ذلك! وهل لهذه الأفعال علاقة بتدن في تقدير الذات وسلبية تجاه النفس، معتقدين أن هذا ما يستحقونه من حياتهم فعلاً. هناك بعض الدلالات التي قد يصاب بها الإنسان وتدلل على أن هناك تدنياً في تقدير الذات، منها مثلاً انعدام…
الأربعاء ٢١ ديسمبر ٢٠٢٢
عندما قرر الستيني «فيلشي» العودة إلى مسقط رأسه في نابولي بعد غياب طال أربعة عقود لرؤية أمه الهرمة، بدا الأمر في غاية الشاعرية خصوصاً عندما بدأ في إضافة ذلك الدفء لها وحولها قبل أن تغادر الحياة. غير أن هذا الدفء انقلب إلى عاصفة قارسة قلبت مزاجي بعد أن قلبت كيان «فيلشي» بطل الفيلم الإيطالي Nostalgia «نوستالجيا» الذي تعود قصته لرواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الإيطالي «إيرمانو ريا» صاحب رواية «الإقالة من الحياة» والتي لي عودة إليها قريباً. يتعثر بطل الفيلم في ذكرياته التي غلبته رغم تحذيرات كل من حوله بالرحيل بعيداً، ليلقى مصيراً لم أتوقعه إطلاقاً كمشاهدة سلبتني تماماً فكرة الحنين. ولكني كغيري سقطت في ذلك الشرك، وتذكرت قول ماركيز: «لقد محا الحنين، كالعادة، الذكريات السيئة، وضخّم الطيبة». هذا تماماً ما يفعله الحنين، أكثر المشاعر التي تنسحب على الإنسان بعذوبة، فيعيد ترتيب الذاكرة بالصور القديمة الممتلئة بألوان السعادة عن أماكن بعيدة أو قلوب راحلة، أو أحوال زائلة، فيطفو الحزن على الروح التي غلبها الشوق. وللحنين مراتب عديدة، ليس أولها الشوق على الفائت، ولا الحرقة على المفقود آخرها. فبعضهم يضنيه الوجع، فيغدو مفجوعاً بألمه الذي يتحول إلى شفرة للقطع، قطع كل شيء.. حتى حياته نفسها! للحنين تلك السلطة، فقط لكونه يضخم اللحظات الجميلة، لتصبح مرغوبة بشدة وقابعة بعمق مكدرة لدواخلنا. كذلك…