محمد النغيمش
محمد النغيمش
كاتب متخصص في الإدارة

الفواجع والقرارات المؤسسية

آراء

آلمتنا كارثة حريق الفجيرة الذي نجت منه أم مكلومة وراح ضحيتها أطفالها السبعة الذين لم يتبق منهم سوى بصمات أياديهم البريئة على الجدران المتفحمة وهم يحاولون الهروب من جحيم الفاجعة.

وبقدر هذا الألم سررت بقرار مؤسسي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بتوجيه الدفاع المدني بصورة عاجلة «للتأكد من وجود أنظمة للحماية من الحرائق متصلة مع الدفاع المدني مباشرة في كافة بيوت المواطنين» وأن الدولة ستتحمل تكاليف من لا يستطيع توفيرها.

ما همني في هذا القرار أنه لم يرتكز على حل وقتي بل دائم لا يرتبط بهمة أشخاص وفتورها. مشكلتنا مع الكوارث والفواجع في المنطقة أننا نعالجها بقرارات عاطفية وننسى السؤال الجوهري: كيف نقلل احتمالية حدوثها مستقبلاً؟

التاريخ يزخر بأمثلة للقرارات المؤسسية الحكيمة التي حاولت تقليل أضرار الفواجع. أشهرها الحريق الكبير الذي انطلق من خباز في قلب لندن ليلتهم ثلثها ويقتل نحو 13 ألف شخص عام 1666.

فيما وصف بأنه أبشع حريق من نوعه في تاريخ عواصم العالم. بعدها بدأ الإنجليز بقوانين أمن وسلامة صارمة، وبتأسيس دائرة الإطفاء، والتأمين، وفرض البناء بالطابوق الإنجليز الشهير بدلاً من الخشب، وبعد فترة طويلة منعت مواقد النار المنزلية بمناطق معينة، فصارت بريطانيا مضرباً للمثل في اشتراطات الأمن والسلامة.

والأمر نفسه، يتجلى في عالم الطيران، فحينما تسقط طائرة أو تتعرض لخلل أو مكروه ينطلق إليها فريق تحقيقات للوقوف على الأسباب لتصدر بعدها قرارات مؤسسية. من تلك القرارات الشهيرة اشتراط وجود منفضة سجائر في كل دورة مياه عام 1973، بعد أن قضى حريق على 123 راكبا نتيجة احتراق سلة المهملات في تلك الدورات.

وكذلك الحال بعد أن نجح قبطان الطائرة السعودية، عام 1980، بمهارة في الهبوط الاضطراري بعد أن شب حريق في الطائرة، لكن بعد فتح أبواب الطائرة تبين أن نحو 300 راكب قد قضوا نتيجة الدخان القاتل. ليعاد النظر في آلية الشفط الهوائي بالطائرات. وهذه جزئية مهمة فالبعض يعتقد أن ألسنة اللهب وحدها ستقتل الناس، غير أن الدخان الخانق هو في الواقع لا يقل خطورة وفتكاً عن النيران.

ومن هناك يجب إعادة النظر في أنظمة السلامة في أبواب الحريق التي تغلق أوتوماتيكياً في المباني لتحجب الدخان والنار. فضلاً عن الشفاطات العملاقة في الأماكن العامة المغلقة لضمان قوة شفط هائلة حفاظاً على أرواح الناس من الاختناق.

وكذلك الحال بعد فاجعة عدوان الطائرات على نيويورك في حادثة «11 سبتمبر»، حيث لاحظنا بعدها أن باب كابينة القيادة صار به رقم سري، وثقب أو «عين سحرية»، وإجراءات محددة مكتوبة لكيفية دخول وخروج قبطان الطائرة من قمرة القيادة. وشاهدنا تغيراً جذرياً في آلية تفتيش الركاب حتى يومنا هذا.

فالبلدان التي لا تضع حلاً لكوارث (غير طبيعية) ألمت لها هي في الواقع تسهل إعادة الكرة. وهنا نتذكر «اليابان العدواني» في حروبه القديمة وكيف قرر أن يبرهن للعالم بأنه يمكن أن يسود بعمل ابتكاري وتكنولوجي داخلي يشار إليه بالبنان، فصارت اليابان مضرباً للمثل في الجودة والإتقان.

وكذلك سويسرا التي استمرت بعد مغامرات جيرانها أو بالأحرى حروبهم العالمية الطاحنة، في نموذجها السلمي، فصارت بقرار مؤسسي تاريخي مهداً للسلام وقبلة المؤسسات الإنسانية ويلجأ إليها في حل المشكلات.

ما سبق يشير إلى أن الحكمة تقتضي أن تضع القيادات في كل مكان حلولاً للمشكلة، قبل أن تتفاقم، لا أن تنتظر فاجعة هائلة، مثل حريق لندن أو 11 سبتمبر، لتبرر بها قراراتها. وكما قال رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل: المتشائم يرى مشكلة في كل فرصة والمتفائل يرى فرصة في كل مشكلة.

المصدر: البيان