خاص لـ هات بوست:
في حادثة مكررة، لكنها الأولى من نوعها في سورية، أقدم إرهابي إنتحاري على تفجير نفسه داخل كنيسة عامرة بالمصلين في دمشق، مما أودى بحياة عشرات الأبرياء، إضافة للعديد من الجرحى.
لا تكفي كلمات العزاء لمواساة أهالي الشهداء، فالمصاب كبير والألم شديد، ولا نملك نحن السوريين إلا الالتفاف حول إخوتنا المسيحيين ليشعروا أننا عائلة واحدة، لا فرق في الإنسانية وفي الوطن بين ملل وطوائف، وفي الواقع أننا لطالما عشنا سوية كأهل نتشارك الأفراح والأتراح، لكنك بشكل تلقائي كما في كل حادثة مشابهة، سواء مذبحة طالت أهل الساحل أو أهل السويداء لانتمائهم، أو طعن في مكان قصي من العالم، تجد نفسك كمسلم بحاجة للتذكير أنك تتبرأ من هؤلاء الإرهابيون.
وفيما توجهت أصابع الاتهام نحو تنظيم “داعش”، خلص بعض المحللين إلى البحث عن جهات مستفيدة من إثارة البلبلة في المجتمع السوري، إلا أن سؤالاً يطرح نفسه بقوة: هل جميع التنظيمات “الإسلامية” الأخرى لا توافق على ما تم فعله؟ هل يتبرأون مثلنا، نحن الذين لا ندعي التقى، من هؤلاء الإرهابيين؟ ألم يكن المنفذ مقتنعاً بما سيقوم به؟
الجواب ليس صعباً، يمكن للقارىء الكريم أن يرى العبارات التي تدين الحادثة من قبل جهات سورية، وهي كما نقول في العامية “وجه السحارة”، لنجد اختفاء مصطلح “الشهداء” في معرض الحديث عمن قضوا نحبهم في الكنيسة، واستخدام مفردة “الضحايا”، مع تمنيات متواضعة بالرحمة، دون الدعاء، فالمسيحيون برأي الفكر الرائج اليوم لا يعتبروا شهداء ولا يجوز الدعاء لهم بالرحمة، هذه الأفكار هي أساسية في الفكر السلفي، وفي غيره، يداريها المعتدلون باللف والدوران، وأن يؤمن بها كثير من الناس هم أحرار، أما أن يكون هذا النهج الذي سيسود رسمياً فتلك طامة كبرى، سيما بالنسبة لمن يحلم بدولة مواطنة فيها الناس متساوون، لا يميز بينهم دين أو لون أو جنس.
قد يبدو الموضوع بسيطاً لا يعدو سوى حادثة وستمضي كغيرها، إلا أننا أمام مواجهة، فهناك آلاف المقاتلين المقتنعين بأفكار نجدها “متطرفة”، بينما يجدونها عين الإسلام، تستحق التضحية بالحياة مقابل تحقيقها، لا سيما حين تكون النظرة إلى الدنيا دونية، كل ما هو ممتع فيها “حرام”، في حين أن هناك في الآخرة سيجدون كل ما يحلمون به، سيما إذا ما قام واحدهم بإنجاز عظيم، كقتل أعداد من “الكفرة”، حيث الكفر حقل واسع، لا نهاية له، لا يوجد من هو بمنأى عنه، حين سينقرض الملحدون وأصحاب الملل الأخرى، والطوائف المختلفة، هناك إثنان وسبعون فرقة غير ناجية، يمكن المساهمة بالتعجيل في دخولها النار، ولنا في الخطاب التكفيري المنتشر ضد “الصوفية” خير مثال.
من جهة أخرى هناك مئات من خطباء المساجد الذين يبثون الحقد والكراهية بين الناس، وجدوا المناخ مناسباً للترويج لتكفير الآخرين وإحلال دمائهم، فهل سنتفاجىء من غسيل عقول الشبان الصغار الذين يرتادون المساجد؟ هل يكفي أن ندعو شفهياً للسلم الأهلي وكل ما في المجتمع يدعو للابتعاد عنه؟ هل ندعو لبناء دولة على أسس صحيحة وفي كل مفصل هناك “الشيخ” كرجل دين يبت في شؤوننا؟
هناك نقاط عدة قد يكون حري بنا التطرق لها، منها ما يتكرر عند كل حادثة شبيهة بمأساة الكنيسة، وأولها الدعوة إلى الإدانة الفعلية لكل فكر يبرر هذه الأفعال، واليوم نحتاج إلى إدانة ليست منا نحن الناس العاديين، وإنما من الجهات الإسلامية الرسمية، لا سيما المعنية اليوم في سورية، إدانة للفكر وليس الفعل فقط، مع ما يتبع ذلك من ضرورة مراجعة فكرية علنية واضحة وصريحة، ووضع النقاط على الحروف، بحيث يفهم الإنسان المسلم وغير المسلم، العربي وغير العربي، ما هو الموقف في ذاك الفكر منه؟ ما تعريف الجهاد؟ ما هي أهدافه؟ كنا نعتبر أن هذه المراجعة ضرورية لتصحيح صورة الإسلام، باعتباره دين واحد يشمل تحت مظلته كل من دعا إلى الله وعمل صالحاً، إنما اليوم أصبحت الحاجة ماسة بشكل شخصي حين يمكن أن تطالك في بلدك وأمنك وحريتك.
لا يكفي أن نجعل من داعش السلة التي نلقي بها كل ما هو قذر، ونقول أنها لا تمثل الإسلام، والإسلام بريء منها، بل يجب أن نفند ما يكرس في عقول هذا الجيل الناشىء، ونملك الجرأة لتصحيح الخطأ، فبلادنا تستحق ألا نعيدها للوراء قرون، والإسلام جدير أن نزيل عنه الشوائب، فالله تعالى كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، وهو عز وجل ترك لنا حرية الاختيار قائلاً {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} لتتحقق إنسانيتنا ونختلف عن باقي الخلائق، لا ليأتي شراذم يوزعون شهادات الكفر والإيمان على الناس باسمه وهو منهم براء.
الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى، والسلام على الأوطان ولها.