ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

أشياء تحرق ماء العين

آراء

ليس من شيء أثقل على صدر الإنسان، ومدعاة لحريق ماء العين مثل رؤية شخص ودعته الأضواء، وتناسل عنه الأصدقاء، وتنكر له المعارف، ونسيه من كان يقصده في عزه ومركز عمله، وهو اليوم وحيدٌ في تقاعده يحاول أن يتعثر في أي شيء ليعمله، ويمضي وقته بطيئاً ودون فائدة يعدها، يحاول أن يتصالح مع الأمراض التي خلفها القعود وخريف العمر، تماماً مثل مشاهدة شخص كان في يوم ما فارساً وخيّالاً من خيالي القبيلة، ينتخي إذا ما حزّت الحزّة، وسمع الصائح، وهو اليوم في الزمن الجديد يعمل حارساً لمدرسة ابتدائية تضيق به أسوارها وتصرفات العود الأخضر من الجيل الجديد، أو أن ترى عجوزاً كانت في صباها تزاحي الحجر، تعمل كل نهارها في البيت والنخل، وفي المساء تحمل على رأسها «قلالتين جت» مضحى لدبشها، وطفلاً على خاصرتها، تمشي من مطلع الهملة حتى المعترض، تُرَوّي من الفلج، وتصل إلى بيتها لتعد عشاءها، تتذكرها اليوم وهي في وحدتها وقد تناثر أبناؤها، ولم يتبق لها إلا خادمة إندونيسية تحاضيها وتراعيها، وتذكّرها بدوائها!.

إذا كان النسيان والجحود يثقلان القلب، فكيف بالعقوق والنكران؟ مثل ذلك الشايب المرمي في دار العجزة، يعاني من عقوق الأولاد والخرف وتنكر الزمن، مثل أم أجبرتها زوجة الابن أن تدفن حياتها مبكراً في مأوى للمسنات بعيداً عن أحفادها وجاراتها والناس، مثل أخ كبير، كبّر إخوانه، وضحى من أجلهم ولهم، فرّق ماله وحاله عليهم، وحين كبر وشلّ لم يجد من الإخوة لا عضيداً ولا سنيداً، إلا أختاً وحيدة تظل تبكيه بصدق قلبها حين ترى ارتجافاته، ودمعة باردة تسكن طرف عينه، مثل ابن يزين لنسائه صحن الدار، وينسى حليب أمه، وينسى فضلها وكل خيرها، ويسكّنها على السطح أو في مرفق أعده المهندس ليكون مكاناً للغسيل أو مستراحاً لخادمة المنزل!.

كيف تنسى المدينة رجلاً عمل لها، وخدمها بماء عينه، وهو اليوم في كبره تلفظه بيوتها، ويعيش بأجرة في ملحق بيت شعبي، مثل أي عامل طارئ على المدينة؟ كيف برجال عاشوا زمن الفاقة والتعب والخوف والتأسيس، وهم اليوم في تقاعدهم القديم يعدون أمورهم بالفلس، لكي لا يمدوا أيديهم، يدخلون السوق ببضائع لا تليق بأسمائهم، وتخجل منها رتبهم، فقط لكي لا تنكسر نظرة أعينهم في عمرهم المتبقي، دخلوا السوق بائعين، لا مشترين؟.

ثلاثة أمور تزلزل القلب، وتحرق ماء العين: دمعة طفل، وانكسار رجل شريف أو مسن، وحاجة امرأة عجوز!.

المصدر: الاتحاد