في الشارقة أيام تمضي باتجاه النهر، وفي أحشاء قاربها يكمن السر، وشراعها يرفرف ببياض التاريخ، وزخمه التراثي.
في هذا الاحتفاء البهيج رجال دأبوا على إرواء الحياة بماء الذاكرة الحية، ويرسمون على الأرض صورة الإنسان الذي نحت بأصابعه لوحة الفن الأصيل، وأشاع في الوجود معنى التضحية من أجل أن يكون هو والآخر في سفينة واحدة يعبران المحيط، ويروضان الموجة، كي لا تخفق بالهلع.
في أيام الشارقة التراثية، الماضي يسري مثل الماء في الذاكرة، ويمد يداً ناصعة من غير سوء باتجاه الحاضر، ويغدق المستقبل بأحلام أزهى من زهرة اللوز، وأماني مزخرفة بالثقة والأمان، وكم هي رائعة هذه المرأة كبيرة السن، وهي تخفق الدقيق بالماء كي تصنع رغيف الحاضر، مغموساً بملح الأمس، وكم هي شائقة هذه الرقاقة الشفيفة، وهي تشف برائحة الأمس مغسولة بجمرة الأيادي المعروقة، وأحلام الشجرة السامقة في فناء البيت القديم.
أيام الشارقة التراثية، عود أبدي لفلسفة المكان، وبوح الزمان الإماراتي الجميل، هنا في هذه الأيام المشرقة بوجوه الساعين صدقاً لتكريس واقع ما كان له أن يصمد في وجه الموجة العارمة، لولا جهود المخلصين الكادحين في وضح النهار، وعند إغماضة الليل لأجل أن يبقى الماضي حاضراً، وأن تستمر الذاكرة في اليقظة، ويهنأ الإنسان بغذائه الروحي من دون منغصات، أو نسيان، ومن دون ترهل أو تساهل، أو تجاهل، لأننا في حضرة الذاكرة تورد بساتين وعينا، وتزدهر حقول حياتنا، وتنمو أعشاب أنهارنا، وتورق أغصان التين والزيتون، وتبدو أحلامنا مثل عيون الغزلان، وأمنياتنا تفوح بعطر الزعفران، وكبرياؤنا نخلة لا تجف خصلاتها عن البلل، وتاريخنا مثل سدرة عصافيرها نحن العشاق، الذين تترعرع مشاعرنا عند نجود هذه التفاصيل في ماضينا.
في أيام الشارقة التراثية، تمشّى الماضي بخيلاء، وسار التاريخ بأناة وتؤدة، والإنسان راعي وجودهما، يستلهم من أيامه أمصال الاستمرارية، ومن مآثر الطيبين، النبلاء يروي عطش النخيل، ويسقي جذور أشجار السنط، والأكاسيا، ويلون قماشة أفراحه، بمتحف الشارقة الذي كان صندوق الأمان، ومحفظة الذخيرة في زمن سرعته تفوق سرعة الصوت، وضجيجه يخترق الجدران والوجدان.
في أيام الشارقة التراثية، بدا الحلم يمضي كالشلال في طريقه إلى مزرعة القلب، وكان الناس يجوبون المكان كمن يتأمل وجه حسناء ازدانت بوقار وحشمة، وكينونة لا يتربص بها الوجود ولا يقلقها زمن، لأنها في صلب الزمن ترتشف رحيق الحياة، وتخطب ود ذاكرة وفية لا تخون، بل تصون وتحتضن وجدان التاريخ بمشاعر أكثر دفئاً من جنح الطير، وأكثر بياضاً من موجة البحر، وأكثر سموقاً من نجمة السماء، وأكثر رهافة من غيمة الشتاء.
المصدر: الاتحاد