عندما تسأل شخصاً عن موضوع ما، فيقول لك أنا على يقين من معرفتي بهذا الموضوع. ونحن في صلابة هذا اليقين، نفرط بثوابت كثيرة، وتضيع منا قيم كثيرة، لأننا عندما نصل إلى وهم اليقين، نكون مستعدين لأن نفقد العالم، ونضحي من أجل يقيننا المتوهم، وهذا أشعل الحروب، ونشر الكروب على نطاق الكرة الأرضية. فكل منا يقول أعرف، ونغرق في المعرفة، ولكن من دون فهم، والفرق شاسع ما بين المعنيين. فإن تعرف فأنت تغرف من معين آخر، مثل ما يفعل شخص عندما يدلو بدلوه في بئر ما، فأثناء النزح قد يختلط الماء مع الطين المترسب في قاع البئر.
المعرفة تأتيك من الخارج، والفهم يأتيك من الداخل، أي من وعيك أنت. فالوعي يقودك إلى الإدراك، والإدراك يدخلك في باحة الحب، والحب ليس يقيناً وإنما هو الحيرة. عندما تكون في اليقين فلن تتأمل جمال الوردة؛ لأنك في هذه الحالة قد تشبعت بالمعرفة، أي معرفة أن الوردة جميلة. كن في الحيرة الخالصة، التي تجعلك تتوقف عند الأشياء، ولا تعبر وأنت أعمى، سوف تنظر بإمعان وتتأمل، وستكون أسئلتك بحجم حبات رمال العالم، ولن تتعب وأنت تتأمل، الذي يتعب هو من يصل إلى اليقين؛ لأنه مثل الذي يغلق عليه أبواب الغرفة، ويريد أن يرى ماذا خلف الجدران. نحن الآن تُشن علينا حروب شرسة، من قبل أصحاب اليقين الوهمي، والعالم يواجه معضلة هذه البذرة الشيطانية، ولكن بلا جدوى، لأنك لن تستطيع أن تري الأعمى ضوء الشمس.
أصحاب اليقين الأعمى، تصوروا أنهم امتلكوا الحقيقة، ووصلوا إلى اليقين النهائي ولا رجعة، بل هم يجدون في العالم علة الحيرة التي ينبذونها، ويريدون تحاشيها بأي حال من الأحوال، ولكنهم عندما يجدون أنفسهم أمام الواقع المرير، وأن الإنسان الحقيقي لا يمكن زحزحته عن الأسئلة الوجودية الكبرى، فإنهم لا يملكون غير العنف والكراهية والقتل، ويعتبرون ذلك جزءاً من مهمتهم في العالم، في محاربة الحيرة، والتي يعتبرونها خروجاً عن مألوف اليقين.
تراكم المعرفة يجعلك تغرق في اليقين، أما الحيرة فهي تخرجك من غرفة العناية اليقينية، إلى فضائك الداخلي، الذي تكمن فيه حقيقتك. نحن في المعرفة نبحث عن الحقيقة في الخارج، والخارج كائن مخادع، يضع لنا الحقائق بصورة سحرية مؤثرة، ولذلك فنحن في اليقين، نكون قد وقعنا ضحية هذا التنويم المغناطيسي، وأصبحنا لا نرى العالم إلا من خلال هذه الزاوية الضيقة، ونعلن للملأ أننا نملك اليقين، في حين أن الحقيقة تكمن في مكان آخر، الحقيقة في داخلنا. وكلما ابتعدنا عن الداخل، اتسعت الهوة بيننا والوعي، وكلما ابتعدنا عن الوعي قلّ إدراكنا للأشياء، وعندما يحدث هذا نكون قد وصلنا إلى المنطقة اليباب، التي لا تنبت فيها أشجار الفهم الحقيقي.
المصدر: الاتحاد