كاتب إماراتي
هي صباحات جاء بها السفر، وفرضت طقوسها عليّ، أتذكرها، وأتذكر تفاصيل كل صباح، بمذاقه، ورائحته، وبقايا الندى على شبابيكه، وما يمكن أن يشاغب به القلب والرأس، هي صباحات إحدى عشرة مدينة، رأيت فيها ما يرى النائم أحد عشر كوكباً:
– صباح القاهرة.. والنسمة الباردة المباغتة على غير العادة، صباح كان وجهه ندياً، يتراءى لك في مشهد الفجر الضبابي تعب إنسان أصيل، غابشاً نحو الرزق الحلال، وما يثقل كتفيه من أحمال الحياة، وتلك النظرة الحالمة بتغيير شيء ما!
– صباح الإسكندرية.. وشقاوة الموجة الفتية، والبنت القطة الشقية، صباح يمكن أن يجعل من مدن البحر المتوسط خواتم في يديك، صباح العافية الجميلة التي يمكن أن يرسلها لك هذا الأزرق لتدفئ بها رئتيك!
– صباح تونس.. يوم تسللت الشمس مخاتلة حابية من نافذة نسيت أن تغلق ستارتها، لتستقر أشعتها على وجهك ومخدتك وتشاطرك التقلب، رافضة إلا أن تغتنم صبح المدينة، توقظك وتذكّرك بحيوية الصبح ورائحة الفل وطعم الشاي بالنعناع والصنوبر والقهوة المصبوبة بالزهر!
– صباح بنزرت.. حين تلتقي سواعد الجبل بخاصرة البحر، مرددين أغنية تجبر البحّار أن يطوي أشرعته، وساري الجبل أن يعود بخيله وجلبته، صباح بنزرت صباح من عطر وسفر ومطر!
– صباح الدار البيضاء.. وإفطار الحاجة سعدّية، وضحكة الرضا التي تخرج من القلب: «وليدي.. يا وليدي»، صباح لم يكن ينقصه إلا الزهو وأغنية تلك الصبية المنسية!
– صباح مراكش.. المتدثر بجلباب الصوفي، صباح يأتيك ماشياً حافياً، غافياً على لجّة ماء، كعرش لأب أسطوري، صباح المدينة المحناة بتربة حمراء، صباح النخل الجميل الساجد تحت السماء!
– صباح رباط الفتح.. حيث هبعّت وصهلت الخيل، والتحف النهار بالليل، حيث النسمة الباردة التي خبأتها النجوم التي نامت متأخرة للفجر الذي بكّر في صباحه، جاعلاً القلب يخرج من قفصه طائراً نحو زرقة مبهر ضوؤها الآتي من هناك!
– صباح بكين.. صباح السعة والاتساع وكل شيء مضروب في عشرة أمثاله مما نعدّ ويعدّون، صباح وقت جديد وزمن متغير، صباح يشعر الإنسان بأنه قوي حين يريد!
– صباح تشيان.. صباح بريء وقديم يذكّرك بنهارات تجّار طريق الحرير وأشيائهم المدهشة التي يفرحّون بها قلوب النساء المنتظرات على شوق وبشوق، صباح الدهشة!
– صباح شنغهاي.. صباح المباني العوالي، والفطور الإنجليزي في الفندق الإنجليزي العتيق، صباح أدلف بي إلى الانكسار من التعجب والعجب، صباح المستقبل حين يكون مفزعاً وقاسياً على الإنسان الذي يحب ظله، وظل الشجر!
– صباح سنغافورة.. صباح رجال الأعمال بحقائبهم السوداء العامرة وساعاتهم الكبيرة المؤقتة على ثلاث عواصم متباعدة، ووجوههم التي تشبه الآلات الحاسبة، صباح من رقم صحيح، وفاصلة، وجزء من الكسر يجلب الحظ، صباح يضجرك بخرخشته أيها الحالم، المتهادي بكسل!
المصدر: الاتحاد