كاتب إماراتي
هناك من العلاقات الإنسانية تبدأ بطريقة بسيطة ثم تكبر، وتتعمق حد أن تصبح بقدر الدنيا، وحد أن تكون شيئاً قريباً من علاقة الرحم والدم، لا يمكننا أن نحدد أفقاً أو عمقاً للعلاقات الإنسانية التي تتطور مع الزمن والعواطف، ومن بين تلك العلاقات، علاقة العمالة البسيطة مع العائلة، وكيف يكبرون سوياً، وقد لا يفترقون إلا في الوداع الأخير.
ولعل الأجيال الجديدة هي من كوَّنت علاقة من نوع آخر ومختلفة عن علاقاتنا نحن الجيل الماضي، علاقة تشكلت من وجود الشغالات الهنديات والفليبينيات والإندونيسيات والإثيوبيات في البيوت، وملازمتهن الدائمة لأولادنا، واحتلالهن لحيز ليس بالبسيط في حياتهم، خاصة في الصغر، حيث تتشكل العلاقات والعواطف والوشائج الاجتماعية، بعض هذه العلاقات تكبر حتى تشيخ الشغالة في البيت، ويكبر الأولاد، ويصعب عليهم فراقها أو تمتد العلاقة لبلادها ومدينتها وتظل موصولة بالهبات والعطايا وحتى الزيارات بعد أن تترك خدمتها وتعود لبلادها.
وخلال الخمس والعشرين سنة الماضية، ظهرت كثير من القصص للشغالات، فليس كلهن سيئات وعديمات الإنسانية، بل هناك قصص من واقع حياة الناس الحقيقية، تجلى فيها الوفاء من الجانبين، وظهر الجميل والإحسان من قبل هؤلاء الصغار الذين تربوا في كنف الشغالات، وغدون بمثابة أمهات بديلات أو أمهات رديفات، فكم من ولد، حينما أنهى دراسته الجامعية، تذكر تلك الشغالة التي رعته واهتمت به، وكانت تحاظيه وتحمله على خاصرتها، فكان منه الوفاء تجاهها، ولا يكفيها، ولا يكافئها أن يسلمها الراتب الأول، عرفاناً بالجميل!
كثير من العائلات حينما تسافر إلى مدن بعينها، تتذكر أول ما تتذكر الشغالة القديمة، فيبرونها بالوصل والسلام ولا يبخلون بالعطايا أو يستدعونها في عجزها للعلاج هنا، ثمة أمور وعلائق إنسانية ما إن تتشكل يصعب فك عراها أو قطع حبال وصلها، هكذا هو الإنسان الحقيقي.
حتى إن بعض هذه القصص بين العائلات والشغالات ترقى لأن تصبح قصص أفلام لما فيها من شحنات عاطفية وعلاقات إنسانية، خاصة حين يمتد الزمن، وتطول الأيام، وتتداخل المسائل العائلية، فتنتفي علاقة الخادم بالمخدوم، ويبقى الود الإنساني، وصفاء السريرة التي جُبل عليها الإنسان وفطرته الآدمية الصافية، فالدمع هو المرادف لكلمات الوداع حين تنتهي العلاقة، وتعود الطيور لأعشاشها، دموع نشيع بها علاقة بدأت تكبر من يومها الأول دون أن ندري، وبقيت القلوب تخبئ، وتضم، وحين تصل الخطوات لآخر عتبات الوداع يظهر هذه التفجر العاطفي والوجد الإنساني من كلا الجانبين.
ليست بالتأكيد كل العلاقات تصلح لتكون نموذجاً إنسانياً، فكثير من هؤلاء العاملات أو العاملين، تنتهي العلاقة في ذلك اليوم الذي ختمت فيه الأوراق، وبعضهم يشقون طريقاً لعلاقات أخرى في بلدان أخرى وعند عائلات جديدة، صفة الولاء والأمانة والإخلاص هي ما نعني بالعلاقات المتميزة والتي تبقى مع الأيام، وتؤثر في النفوس، وربما ترتقي بالإنسان، وتغير مساره، وربما حظوظه، فكثير من السائقين المخلصين وجدوا شيئاً من الإرث والتوصية لهم، وكأنهم من أفراد العائلة، حينما مات المعيل!
لذا الرهان على مدى طول وعمق العلاقات الإنسانية وتداخلها لا يمكن أن تعرفه أو تحدد ماهيته، لأنها مبنية على كم من العواطف المتشابكة، لا أرقام منافع وحسابات جدولية، هي علاقات تبدأ صغيرة، فلا تنتهي إلا بحجم الدنيا، لأن الإنسان يبقى إنساناً أولاً وآخراً!
المصدر: الاتحاد