فؤاد عجمي.. رحيل أحد ألمع الأكاديميين في دراسات الشرق الأوسط

أخبار

فؤاد عجمي

عن عمر 68 سنة، وبسبب مرض السرطان، توفي المفكر السياسي، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة جون هوبكنز الدكتور فؤاد عجمي.. رحيله الذي كان له وقع المفاجأة لأن خبر مرضه لم يكن معروفاً لدى كثيرين، ولم يشر له عجمي في ظهوره التلفزيوني المتكرر أو في مقالاته الذي كان آخرها الأسبوع الماضي، حيث نشر مقالاً مطولاً في جريدة «وول ستريت جورنال» حمل فيه مسؤولية تدهور الأوضاع في العراق للرئيس العراقي نوري المالكي والرئيس الأميركي باراك أوباما.
معهد هوفر للأبحاث، الذي يعمل فيه عجمي واحدا من كبار الباحثين هو أول من أعلن خبر رحيل عجمي، وأصدر نعياً للراحل وصفه بأنه «أحد ألمع الأكاديميين في دراسات الشرق الأوسط»، مضيفاً أن أسرة المعهد ستفتقد روحه الرقيقة للأبد. حياته وإسهاماته الفكرية أثرت في الكثيرين.

وتوالت كلمات التعزية والرثاء من شخصيات عرفت عجمي عن قرب وتأثرت بأفكاره. أندرسون كوبر مذيع محطة «سي إن إن» الذي ظهر عجمي في برنامجه «360» بشكل متكرر في الأعوام الأخيرة كأحد أبرز المعلقين على الأحداث في الشرق الأوسط، نشر في حسابه تغريدات قال إنه سيفتقد عجمي الذي أبدى اهتماما عميقا بأحداث العالم. أولئك الذين عرفوه سيفتقدون بلاغته، وتعاطفه ولطفه.

* صحيفة «وول ستريت جورنال» التي نشر فيها عجمي مقالاته لما يزيد عن 27 سنة أشارت في الخبر الذي نشرته عن وفاته أن كتاباته الأنيقة «زينت صفحات الجريدة لأكثر من 27 عاما».

ولد عجمي في 19 سبتمبر (أيلول) من عام 1945 في بلدة أرنون جنوب لبنان من عائلة شيعية قبل أن يذهب في عمر الـ18 للولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت بعد ذلك مقره الدائم. أكمل عجمي دراساته الجامعية في جامعة شرق أريغون وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن في العلاقات الدولية، لينضم بعدها لجامعة برينستون بصفته أحد أساتذة كلية العلوم السياسية.

تميز عجمي بالقدرة على الكتابة عن قضايا فكرية وتاريخية معقدة بأسلوب رفيع أخاذ، كما كان متحدثا مفوها بليغا ويملك القدرة على الإقناع والتأثير.

نشر عجمي ما يقرب من 400 مقال ناقش في معظمها الأحداث في الشرق الأوسط. كما قام عجمي بنشر كثير من الكتب التي حققت نجاحات كبيرة كان أولها كتابه الشهير «المحنة العربية» التي عالج فيه الجذور العميقة للتراجع العربي على المستوى السياسي والثقافي الذي أعقب هزيمة 1967. أما كتابه «قصر أحلام العرب» فتعرض فيه إلى أحلام المثقفين العرب المتهاوية بسبب الأنظمة القمعية التي أدت إلى مزيد من الهزائم والإحباط. آخر كتاب نشره عجمي كان بعنوان «التمرد السوري» ويسرد فيه قصة صعود نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، ومن ثم ابنه بشار الأسد، كما يتطرق إلى الظروف التي دفعت الثورة إلى الظهور، والأساليب الرهيبة التي اتخذها النظام لقمعها.

كتب وتحدث عجمي في السنوات الأخيرة عن الثورة السورية وانتقد الرئيس الأميركي باراك أوباما كثيراً في تعامله مع الأزمة، مشيراً إلى أن عدم تدخله وامتناعه عن دعم المعارضة السورية هو الذي أطال في عمر النظام الأسدي. في أحد حواراته الأخيرة أشار إلى أنه ألف كتابه الأخير بسبب حزنه من العذاب الرهيب بسبب المجازر والفظائع التي شهدتها سوريا منذ اندلاع الثورة.

يمكن القول، من دون أي إحساس بالتعجل، إن السنوات الأربع الأولى كانت «سنوات عسل» بين الصحافة الأميركية والرئيس أوباما. بالتأكيد هناك من انتقده ولكن لم يستطع أحد أن يسدّد له ضربات قوية، كتلك التي كان يتلقاها الرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي حاربته الصحافة وما زالت.

يعود ذلك إلى قدرة أوباما الخطابية ولسانه العذب، إضافة إلى اتخاذ الصحافيين موقفا ناعما جدا من قراراته.

هناك بعض الصحف والمحطات التلفزيونية من كان يتشدد في انتقاده من باب النصح فقط، وليس الاعتراض.

فقط قناة «فوكس نيوز» – ربما – اتخذت موقفا معارضا لأوباما على طول الخط، ولكنها اختارت شخصيات متوترة وغاضبة وشبه فارغة ثقافيا لمثل هذا الدور.

شخص واحد استطاع أن يصفع أوباما صفعات سياسية وثقافية ساخنة تدير الرأس. هذا الشخص هو فؤاد عجمي.

عجمي استطاع في الكثير من المناسبات أن يظهر أوباما شخصا ساذجا في السياسة الخارجية خصوصا في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني كثيرا بسبب سياساته الرديئة.

في إحدى المحاضرات، قبل أكثر من سنة، لم يترك عجمي أي نقاش طرحته إدارة أوباما حول أسباب عدم تدخلها في سوريا إلا ورد عليه بطريقة بليغة ممزوجة بالسخرية.

تردد الإدارة الأميركية، وعلى لسان وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون آنذاك، أن امتناع إدارة أوباما عن دعم الثوار، يعود إلى الأوضاع الحرجة للحدود السورية وخصوصية تلك الحدود. ولكن عجمي، يرد وبإقناع، أن هذا تحديدا هو السبب الذي يجب أن يسرّع من التدخل بسبب موقع سوريا الاستراتيجي، إضافة إلى أن التدخل السريع سيحمي الدولة، وسيحافظ على تماسك المجتمع، قبل أن يعبث به الرئيس بشار الأسد، ويزرع بداخله عداوات وأحقادا لن تندمل.

يختم عجمي حديثه هذا بسخرية قائلا إنه على هيلاري كلينتون أن تتحدث مع زوجها ليشرح لهم ما يجب عليهم فعله في المنطقة. عجمي، معجب بالرئيس السابق بيل كلينتون ومن قبله ريغان وترومان، وغيرهم من الرؤساء الأميركان من القادة العظماء الذين يعكسون الأهمية الكبرى للولايات المتحدة ودورها التاريخي المتفرد في تشكيل العالم اليوم، كما فعلت بالسابق.

لكن أوباما الضعيف، كما يرى عجمي، يمثل فعلا نقطة الانهيار لهذه العظمة الأميركية. يسخر عجمي بقوة من أوباما الذي قال مرة بصوت مسموع لأحد القادة العسكريين: «عمل عظيم.. عمل عظيم».. ويتساءل بعدها عجمي بنبرة حزينة ولاذعة ما هو العمل العظيم يا ترى؟ ومن ثم يجيب «عمل عظيم أن البحرية الأميركية أنقذت جنديين من قبضة القراصنة الصوماليين.. هل هذا عمل عظيم لدولة عظمى!».

طبعا لا ننسى حديث أوباما الهزيل والضعيف جدا عن «القيادة من الخلف» أثناء الثورة الليبية على القذافي.. أميركا باتت تقود من الخلف.

يشير عجمي إلى تضخم دور روسيا في السنوات الأخيرة، بسبب هزالة الموقف الأميركي الذي ظل يبحث عن موافقتها لأي تدخل في سوريا.

يقول عجمي في إحدى مقابلاته الصحافية: «كلينتون عندما تدخل في كوسوفو لم يبحث عن الموافقة الروسية.. وأوباما ينتظر من بوتين أن يوافق له».

وفي مكان آخر يقول إنه ذهب إلى الحدود السورية التركية والتقى خلالها المهجرين السوريين الذين قالوا له بيأس «إن أوباما لا يريد أن يساعدنا.. واضح أنه لا ينوي فعل ذلك حتى لو قتل الآلاف.. حتى منطقة حظر للطيران التي ستقلل من أعداد القتلى وستدعم الثائرين، لا يريدها».. ويقول عجمي إن الجيش السوري متهالك، أو كما يقول المهجرون: «أبو شحاطة».. فمن السهل هزيمته والقضاء عليه، وتخليص المنطقة من نظام بشار الإجرامي.

أمام جيش «أبو شحاطة» تفضل أميركا أن تدس رأسها في الرمل. فضيحة بكل معاني الكلمة، لم يستطع أي أحد غير عجمي أن يكشف لنا عن أبعادها الحقيقية.

يقول عجمي «إذا اختارت الدولة أن تكون صغيرة فلها ذلك، وأوباما يختار لأميركا أن تكون دولة صغيرة. نقول ذلك والعالم كله تتجه أنظاره للأحداث الضخمة الجارية في سوريا وفلسطين وإسرائيل ومصر هذه الأيام، وإدارة أوباما غائبة تماما عن المشهد السياسي، بل يختار أوباما الذهاب إلى دولة صغيرة في آسيا لمباركة الخطوات الأولى للديمقراطية»! هذه صفعات عنيفة من عجمي ستظل مطبوعة طويلا في تاريخ أوباما. وما ميز عجمي المفوّه والمثقف والصريح، أنه تحدى أوباما في أسلوبه الخطابي المتلاعب.. الأسلوب الأوبامي الذي يقول كل شيء ولا يقول أي شيء بنفس الوقت. لكن عجمي يحذر بنفس الوقت من الإعلام الذي تقوده شخصيات، مثل فريد زكريا، وبات صوتها مسموعا لدى إدارة أوباما، وهي لا تعرف أي شيء عن تاريخ المنطقة، حتى أنها لم تعرف أن لسوريا حدودا بحرية، ومع ذلك تحذر من مغبة التدخل!

المصدر: الشرق الأوسط – واشنطن: ممدوح المهيني