الجمعة ٢٠ مارس ٢٠٢٠
التفاؤل ليس استهانة بما هو كائن، وليس تعاملاً سطحياً أو طفولياً مع الظروف الصعبة أو حتى الكارثية، التفاؤل حالة شعورية ناضجة، لأنها تدل على توازن عاطفي وذهني في النظر إلى تقلبات الحياة، لأن العاقل والمتزن هو من يعرف بدقة أن تغير الأحوال هو ما قامت وما تجري عليه قوانين الكون منذ الأزل، لذلك علينا أن نتفاءل في كل الظروف. وحتى إن اختلت خطواتنا في البداية، أو قلنا كلاماً هذيانياً يعبّر عن بشريتنا وضعفنا، أو حزنّا وبكينا ولم نرَ أي ضوء في نهاية النفق، فإن ذلك يبدو طبيعياً جداً للذين يمارسون بشريتهم بدون ملائكية متصنعة. إن الطبيعة البشرية فينا هي صلب تكويننا وهي جذرنا الأكيد، هي تلك القبضة من الطين، وتلك الحزمة من الضعف، ولولا تلك النفخة الربانية التي منحت ذلك الضعف بذور قوته، وذلك الجسد أسرار إنسانيته، ما كنا استطعنا أن نجترح كل هذه المعجزات، ولما عرفنا من ضمن ما عرفنا كيف نكون أقوياء ومتفائلين، وأن نستمر رغم الحروب والكوارث والأوبئة عبر التاريخ! لذلك ونحن في خضم هذه المحنة الكبرى ليس لنا سوى أن نثق بحكمة الله وبقدرتنا على تخطي المحن، فلأول مرة ربما منذ الطوفان العظيم تجتمع الإنسانية كلها على ظهر المركب نفسه، ويكون البشر كلهم على قدم المساواة أمام الخطر، ولا منقذ إلا الله والعمل والأمل! ستمضي الأيام…
الأحد ١٥ مارس ٢٠٢٠
كما في كل حالات انتشار الفوضى، وحين اختلاط الحابل بالنابل، وعندما يزداد الغموض، ويكثر تداول الأخبار، وتصبح وسائل الإعلام بيد الجميع، في مثل هذه الأوضاع فإن أكثر ما ينتشر ويروج هي الإشاعات، صناعتها وتناقلها دون تفكير وتثبت، وبالتالي شيوع حالة من الخوف والقلق جراء محتوى هذه الإشاعات التي في غالبيتها مبالغ فيها أو كاذبة! إن كمية الأخبار غير الدقيقة والإحصاءات والقصص الخبرية الملفقة والمقالات والصور والنكات التي تضخها وسائل التواصل الاجتماعي ناهيك عن المواقع الإخبارية والصحف والقنوات الإخبارية حول انتشار فيروس كورونا أكثر بكثير من تلك الأخبار الدقيقة والصحيحة والواردة من جهات ومنظمات صحية أو طبية رسمية أو معتمدة! هناك جهات مستفيدة من الإشاعات بلا شك طالما أن ازدهار الإشاعات سيقود إلى ترويج سلع أو بضائع أو أية خدمات أخرى، فتحت وطأة القلق والذعر يندفع الناس للشراء دون تفكير، كما حصل مع الإقبال على شراء الكمامات مثلاً التي اتضح لاحقاً أن كورونا لا ينتقل بالهواء بقدر انتشاره بلمس الأسطح التي يقع عليها الفيروس، وكما حصل مع ارتفاع أسعار المعقمات ونفادها، الذي اتضح لاحقاً أيضاً أن غسل الأيدي بالماء والصابون لمدة أربعين ثانية كفيل بالقضاء على أي فيروس! إن التعقيم والنظافة والإجراءات الوقائية أمر في غاية الأهمية، وهو ما تصدر الجهات الصحية الرسمية في الإمارات بيانات فاعلة وواضحة بشأنه وباستمرار، فذلك…
الثلاثاء ٠٣ مارس ٢٠٢٠
تحبون قراءة الإعلانات؟ حسناً، أعلم أن هناك الكثير ممن تستهويهم الإعلانات بشكل عام، فإعلانات الصحف تحديداً فيها من الطرائف والمعلومات الشيء الكثير، كما أنها يمكن أن تستخدم لقراءة تطورات وتحولات المجتمع من خلال نوعية اللغة المستخدمة، ونوعية البضائع والأشياء التي يُعلن عنها والتي تكشف عن اهتمامات واحتياجات الأفراد، كما أن لأنماط الترويج علاقة ماسّة بدرجة تمدّن المجتمع ووسائل الإعلام والقوانين السائدة فيه.. إلخ! أذكر أنني عندما كنت طفلة في المدرسة الابتدائية، كانت جدتي تذهب بي إلى قريبة لها في الشارقة، كان ذلك في نهاية سنوات السبعينيات، وكان الطريق بين دبي والشارقة يبدو لي طويلاً جداً في تلك السنوات، لكن ذاكرتي لا تزال معبأة بمنظر لوحات الإعلانات الكبيرة المغروسة على جانبي ذلك الطريق الطويل، كنت أتغلب على طول الطريق بقراءة تلك الإعلانات الملونة التي افتقدتها لاحقاً! مناسبة الحديث عن الإعلانات هو ما صادفته من إعلانات غريبة، لكنها حقيقية وردت في صحف جمهورية الأوروغواي الصادرة عام 1840 (بعد 27 عاماً من إلغاء العبودية). ورد في صفحات الإعلانات ما يلي: للبيع: - زنجية نصف مهجنة تباع بمبلغ 430 بيزوسا تعرف مبادئ الخياطة وكيّ الثياب. - أطباء وصلوا حديثاً من أوروبا. - عربة ستباع بسعر 500 أو مقابل زنجية. - زنجية عمرها 13 أو 14 عاماً تعرف مبادئ الخياطة. - مرضعة تباع دون نسل…
الثلاثاء ٢٥ فبراير ٢٠٢٠
المقولة التي نلوكها باستمرار عن صعوبة إرضاء الجميع (رضا الناس غاية لا تدرك) ليست صحيحة فقط، بل إنها المقولة التي عادة ما تصدمنا في تلك المواقف التي نظن أنها بديهية، وأن على الجميع أن يتفقوا عليها دون جدل أو نقاش، لكن يبدو أن الاتفاق حول البديهيات أصبح مستحيلاً في هذه الأيام التي نما فيها عند كثيرين شعور التباهي بالجهل والعناد! لقد أصبح سائداً بل ومقبولاً جداً هذا الجدل الذي يلجأ إليه البعض لتعزيز مواقفهم الخاطئة، والذي قد يخرجك من ثبات عقلك، لأنك تعلم أنهم لا يريدون الإقرار بالحق أو الاعتراف بالخطأ، بقدر ما يريدون القفز فوق المنطق جهلاً وعناداً! فالدكتور مجدي يعقوب مثلاً الذي حل ضيفاً كريماً على دبي منذ أيام وتم تكريمه بوسام الشيخ محمد بن راشد للعمل الإنساني، قد بلغ من العلم والتقدير مكانة رفيعة قلما يصل إليها أحد في مجال تخصصه، وقد التقيته في أحد المطارات منتظراً كأي راكب، محتملاً المتاعب وتأخر مواعيد الرحلة، دون أن يثير أي شكل من الصراخ أو يعلن عن حضوره بطريقة مستفزة أو استعراضية! لقد صادفك بعض المسافرين من المشاهير وغير المشاهير وهم يثيرون زوبعة من الاعتراضات على بعض إجراءات المطارات، فيرفعون أصواتهم بالصراخ إعلاناً عن حضورهم ولفتاً للانتباه، ثم يأتيك من يقول لك: طبيعي أن يحظى المشاهير بمعاملة خاصة، فلماذا لا…
السبت ٢٢ فبراير ٢٠٢٠
بدا الرجل الطاعن في السن نافد الصبر وهو يقف في صف الانتظار، ضمن مجموعة من المسافرين المغادرين مطار (أسوان) الدولي إلى القاهرة في رحلة داخلية لن تستغرق أكثر من ساعة وربع الساعة، لكن الرجل كان ينوء بحمل خمس وثمانين عاماً ومهمات طبية جسيمة يسافر للقيام بها إلى أقصى بلدان صعيد مصر التزاماً منه بواجبه الإنساني تجاه فقراء وأطفال بلده، ومع ذلك فقد كان يقف في طوابير الجموع ينتظر الطائرة التي تأخرت كثيراً عن موعد إقلاعها! بعد ساعة وربع، حطت طائرة الخطوط المصرية في مطار القاهرة، ووقف ركابها ينتظرون حقائبهم التي تأخر وصولها كثيراً، ووقف الرجل الثمانيني، متململاً ونافد الصبر مجدداً ينظر إلى ساعته، ويتأمل رجل الأمن طالباً مساعدته، ذهبت امرأة إلى الشاب طالبة منه مساعدة الرجل، فهو ليس أي رجل، قالت له هذا إنسان مهم، يقدم خدمات جليلة، وقته من ذهب، ولا بد من تسهيل سفره وحركته فهذا رجل يتمنى العالم خدمته ومع ذلك، قالت له، انظر إليه إنه يقف ببساطة كأي مسافر رغم انشغالاته والتزاماته! انتظر الرجل مثلنا حتى جاءت الحقائب، تسلم حقيبته الزرقاء الصغيرة وخرج متثاقلاً من المطار، ربما ليسافر إلى دبي! لكنني حتماً لم أتوقع أنني سأراه قريباً! حين فتحت التلفزيون مساء الخميس كان ذلك الرجل يتسلم من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب…
الأربعاء ١٢ فبراير ٢٠٢٠
الإبداع الإنساني كله مبجل ومحل تقدير كبير، ليس بسبب الأسماء التي تنتجه، ولكن لما يضمره هذا الإبداع من دلالات وتأثيرات، فوجود الإبداع بجميع أشكاله: الشعر، النقد، الرواية، المسرح، الموسيقى، القصة القصيرة، الفنون التشكيلية.. إلخ، دليل على حيوية المجتمع وتطوره وصحته واستعداده للتغيير عبر أكثر الطرق سلاماً وتحضراً. إنه لا يمكن تصور مجتمع خال من الإبداع، فحتى عند أكثر التجمعات الإنسانية بدائية يظهر الإبداع عبر الحياة اليومية للناس، كالرقصات، والموسيقى، والغناء، لذلك فازدهار الإبداع دليل على قدرة المجتمعات على فهم نفسها، وعلى استيعاب الآخر، ونجاحها في التواصل مع الظاهر والخفي في هذا الكون، وهنا تكمن الحكمة وتتمركز فلسفة الإبداع والفن والأدب. يظهر الإبداع أيضاً مقدرة الإنسان والمجتمعات على إنتاج سرديات جديدة باستمرار، قد تتحول إلى آثار خالدة مع الزمن، فالخلود ليس حكراً على المعارك والفتوحات والفاتحين، فمسرح شكسبير خالد، كذلك مسرح توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وألف ليلة وليلة، ولوحات مايكل أنجلو، والكتابات على معابد السومريين والبابليين وقدماء المصريين، وأفلام السينما العظيمة كفيلم العراب مثلاً.. هذه سرديات كبرى خالدة، لكنها مكملة لما هو موجود في هذا العالم، هذا يعني أننا حينما نكتب رواية أو نرسم أو نؤلف موسيقى أو نقدم مسرحاً واعياً، فإنما نمارس فعل تواصل وتفاهم مع الآخرين بلغة يفهمها الجميع دون كلام أحياناً، فنحن لا نحتاج إلى أن نجيد…
الأحد ٢٦ يناير ٢٠٢٠
كنت أعيد مشاهدة فيلم (العرّاب) الذي قام ببطولته مارلون براندو، الذي وصف بأنه أحد أعظم الأفلام في تاريخ هوليوود، حين عرفت أنه رفض حضور حفل الأوسكار وتسلم الجائزة التي رشحه لها جميع النقاد بجدارة، مرسلاً خطاباً، علل فيه مقاطعته ورفضه الجائزة بما تقوم به الولايات المتحدة من حملات تشويه ومحاصرة لا إنسانية ضد الهنود الحمر! بحثت لاحقاً لأجد أن عدداً من مشاهير الكتاب والمثقفين والفنانين قد وقفوا هذا الموقف من جوائز مختلفة نظراً لما يحملونه من مواقف معارضة لحكوماتهم، أو لسياسات تنتهجها بلدانهم ضد مبادئ يؤمنون بها، والحق أنه ليس سوى الفن والأدب من يقدر أن يكون رافعة عالية تجاهر وتعلي هكذا مواقف وأصوات بهذه القوة. فحين رفض مارلون براندو الجائزة استمع لخطابه ليلتها 80 مليون شخص كانوا يتابعون الحفل عام 1973! في عام 1925 منحت الأكاديمية السويدية للعلوم جائزة نوبل في الآداب للكاتب برنارد شو، ولكنه رفض حينها تلك الجائزة التي يحلم بها كل كاتب، ليكون بذلك أول من رفض الجائزة منذ إنشائها سنة 1901، وقال معللاً موقفه «هذه الجائزة أشبه بطوق نجاة يلقى به إلى شخص وصل فعلاً إلى بر الأمان ولم يعد من خطر يتهدده»، بالرغم من أنه عاد وتسلمها في العام التالي 1926، رافضاً تسلم قيمتها المادية. الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر رفض نوبل عام…
الإثنين ١٣ يناير ٢٠٢٠
سألني صديق: بماذا تفسّرين التزايد العددي الهائل في ظهور وانتشار العديد من المشروعات ذات الطبيعة الاستهلاكية البحتة التي ظهرت فجأة في منطقتنا؟ يمكن أن نعطي أمثلة كثيرة لنوعية المشروعات التي قصدها السائل: شركات المواد التجميلية، شركات الطيران الاقتصادي، شركات الهواتف النقالة، شركات قنوات التلفزيون الأجنبية، المقاهي الغربية الطراز أو المزاج، ظاهرة الروائيين الجدد الذين بدؤوا في الانتشار السريع والترويج لكتابات غرائبية، ظاهرة شباب البوك تيوبرز، وأولئك الذين يروجون لأفلام السينما المقتبسة من الروايات الغربية.. إلخ. توقفت عند كلمة «فجأة» فأنا لا أعتقد بأن كل هذا الذي نعيشه حدث فجأة، ربما أثار اهتمام صاحبنا متأخراً، أو توقف أمامه فجأة، لكنه بالتأكيد لم يحدث «فجأة»! المؤكد أننا نعيش اليوم لحظة تاريخية مختلفة عما اعتادتها الأجيال السابقة. لقد وُلدت تلك الأجيال على أعتاب مرحلة مغايرة سادتها الأنظمة المحافظة، وشكّلتها الحرب الباردة على مستوى العالم، ولعب الخروج البائس للعرب بعد هزيمة 1967 دوراً حاسماً، إضافة لفوران تيار القومية العربية في ظل عالم يرزح معظمه تحت حكم أنظمة شمولية، مع رغبة الشباب الجارفة في الانعتاق والتعليم والسفر والأحلام.. إلخ. هذا الواقع كانت له توجهاته وأفكاره ونخبه الثقافية والسياسية بكل رؤاها للمستقبل وتفضيلاتها وخياراتها، أما اليوم، وبعد سقوط السرديات الكبرى في العالم وانتهاء الاتحاد السوفييتي وتسيّد الولايات المتحدة، وغلبة الثقافة الغربية وسيطرة نظام الأسواق المفتوحة والبضائع…
السبت ١٤ ديسمبر ٢٠١٩
من أشكال التلصص على الكاتب محاولة النبش في تفاصيل اللحظات التي تسبق أو ترافق ولادة أو إنتاج النص أو الكتابة، فكيف يكتب؟ أي مكان وزمان يختار؟ هل يكتب منعزلاً أم وسط الناس؟ هل ينتابه قلق ما قبل الولادة أم يأتيه الإلهام طائعاً مختاراً ؟ هل يسمع الموسيقى أم يحبذ الصمت حتى لا تتفلت الفكرة، أم بإمكانه الكتابة وسط الحشود: في المقهى مثلاً، أو في قطار المساء المغادر إلى مقر إقامته، أو في المطار وهو يناظر الإعلان عن رحلته؟ وكيف يقبض على الفكرة: أثناء السباحة أم المشي الطويل أم وهو يغطس لساعات في مغطس الحمام؟ علمتني الكتابة اليومية أن أكتب تحت كل الظروف: فلا استسلم لتقلبات المناخ، ولا يزعجني ضجيج المسافرين في محطات القطارات والمطارات، كما أن بإمكاني أن أكتب في المقهى وأنا أتناول الغداء مع صديقاتي! الأمر له صلة بعلاقتنا بالكتابة، بمرونة أجسادنا وأذهاننا، بمدى التزامنا ورهافة لياقتنا الأدبية، حضور الفكرة وثراء القاموس اللغوي الذي يسعفك متى شئت، وكم مضى عليك وأنت تحرث حقول الكتابة طيلة الوقت.. أليس عليه أن يكون خصباً بما فيه الكفاية بعد هذا العمر؟ يذكر في هذا السياق، أن عميدة الرواية البوليسية أغاثا كريستي كانت تأتيها أفضل الأفكار في الحمام كما قالت، فكانت تجلس في البانيو ساعات طويلة حتى تجد القصة الملائمة، وتضيف:«لا أستطيع وضع التصاميم…
الأحد ٢٧ أكتوبر ٢٠١٩
السفر نعمة كبرى، وكل الذين سافروا يعرفون المعنى الحقيقي لهذه النعمة، يعرفون أنك حين تسمع عن عجائب الدنيا، وعن قصور تشبه تلك القصور التي جاء ذكرها في حكايات ألف ليلة وليلة، وأنك حين تقرأ عن طبيعة المجتمعات وأخلاق الناس في المجتمعات البعيدة سيختلف الأمر تماماً عما ستراه حين تسافر إليهم وتشاهد بعينيك وتشعر بعظمة حضاراتهم بجميع حواسك. السفر كحاسة سادسة تهبنا إياها الحياة لتتسع مدارات الرؤية وآفاق المعرفة وأسرار الحواس الخفية. وحين تسافر تختلف رؤيتك للأمور لأنك ترى وتلمس وتتفاعل، تغني في الشارع مع فرق الموسيقى، وتقف مشدوهاً أمام القصور والشواهد، وتتعجب من قدرات الإنسان الهائلة وهو يطوع قوى الطبيعة ويبني الحضارات، فتتعلم كيف تقدر ذلك كله وتنحني له احتراماً. ساعتها يكون لك مطلق الخيار في أن تحب أو تكره، أو تتخذ الموقف الذي تراه مناسباً، دون توجيه أيديولوجي أو سياسي من أحد ما. في طفولتنا، حين وقعت بين أيدينا كتب كثيرة، لعبت دورها في إفساد مفاهيمنا أحياناً، وحشونا بالأكاذيب أحياناً أخرى، تلك الأكاذيب التي لم تصححها سوى القراءة الصحيحة والسفر، فقد كتب أحد أصحاب تلك الكتب يقول: «لقد سافرت للغرب فوجدته مليئاً بالفجور والتفسخ الأخلاقي، وأن لا عائلة ولا قيم هناك»، كتب ذلك بعد زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية كما قال، ولقد صدَّقه الناس وآمنوا بما قال…
السبت ١٢ أكتوبر ٢٠١٩
منذ أن نقلت كتبي إلى الطابق الأرضي، وصممت مكتبة جميلة وضخمة، تتسع لكل تلك الأرانب الملونة والثرثارة التي تملأ الطابق العلوي من البيت، وأسئلة الكبار والصغار في العائلة لا تكف عن التناسل.. سألت الصغيرة التي تحمل اسمي: هذه مكتبة حائط جديدة أليس كذلك؟ أتمنى أن تكون لي مكتبة مثلها! انتفضت أمها على وقع الأمنية: لا أريد مكتبات في بيتي، هل تريدين كتباً؟، تعالي هنا واقرئي كما تشائين، لا ينقصني مزيد من أعمال التنظيف! نظرت الصغيرة إلى وجه والدتها الغاضب، وبهدوء ملائكي متحدٍ ومستسلم معاً، أجابت: لا أقصد بيتنا الآن، أقصد بيتي عندما أكبر، لقد كانت كمن سكب برميل ثلج على رأس والدتها، وابتسمت في أعماقي، منتصرة للصغيرة طبعاً! يقول أخي: هل قرأت كل هذه الكتب؟ يسأل الآخر: متى ستقرئين كل هذه الكتب؟ يسأل ثالث: بكم اشتريت هذه الكتب؟ ويضيف: كيف رتبت مكتبتك؟ أجبت كما ترى! تقول شقيقتي: شكل المكتبة جميل وظريف، تقول جارتي: المكتبة متناسقة مع ديكور المكان، تقول الخادمة: لقد أضيف عبء جديد على التزاماتي في هذا المنزل. أما والدتي، فبقدر حبها لكتبي، فقد قالت: لن نجد مكاناً يتسع لنا نحن والكتب!! وفكرت كيف أفسر عبارتها؟ هل تثني على اهتمامي بالكتب، أم أنها تتذمر منها بشكل بدا لي لطيفاً جداً؟ قبل عصر المكتبة الجديدة، كتبت عنها، عندما كنت لكثرتها…
الإثنين ٠٧ أكتوبر ٢٠١٩
ينتبه الكتّاب إلى أنهم يكتبون كل يوم، وأحياناً طيلة اليوم عن كل شيء، عن السياسة، الانتخابات، الفساد، الحروب، رحلات الفضاء، تعثر برامج التعليم.. لكنهم لا يكتبون عن تفاصيلهم الصغيرة وربما التافهة، ربما يظنون أنها لن تهمّ أحداً من القراء، وقد يكونون مخطئين جداً، فالعالم هذه الأيام يميل للأخبار التافهة أكثر من أي شيء آخر، أو قد يظنون أنهم مطالبون بأن يفصحوا عن أفكارهم في السياسة والثقافة والحياة، بينما في الحقيقة لا أحد يهتم بما يفكرون فيه وبما يعتقدون!! لكن لماذا لا يكتبون عن تفاصيل أيامهم المملة مثلاً أو الجميلة أو البائسة أياً ما كانت، عن السأم الذي يعانونه، عن الأوهام والأحلام، عن الأشخاص الممتلئين بعقد النقص، والذين يتسلقون كتف العالم كل لحظة، عن مغامراتهم المدهشة على بساطتها، عن كسلهم وأنانيتهم وعصبيتهم، عن عدم اهتمامهم بسحر الترتيب الياباني، وتبرّمهم من الرسميات، وعن مغادرتهم لأية حفلة من منتصفها، وأحياناً قبل أن تبدأ، لأنهم لا يطيقون عبارات الادعاء ووجود الأدعياء الذين يسدّون مسامات الوقت!! ذات يوم وصل الحال بالكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل أن ضاق ذرعاً بكل ما يحيط به في محيطه العائلي الأرستقراطي: التعالي على الآخرين، التظاهر بغير الحقيقة، فهجر عالمه وانضم لهؤلاء، عاش عيشتهم، وجاع مثلهم، ودخل السجن معهم، وكتب تلك التجربة في كتاب له بعنوان «متشرداً في باريس ولندن»، مستخدماً…