عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

سيكولوجية الجماهير!

الأحد ١٧ أبريل ٢٠١٦

«حشد العقلاء أمر معقد للغاية، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راعٍ وكلب»، هذه العبارة منسوبة إلى وليم شكسبير، والمعنى نراه ونعيشه بشكل يومي وفي كل مكان، بدءاً بالسياسة وانتهاء بلعبة كرة القدم، القطيع يستنفر ويتجمع في لمح البصر، لأنه يتحرك بمثيرات الشهوة والغريزة، فعلى رائحة الدم تتجمع قطعان الذئاب مثلاً وأسراب النسور والعقبان وكل الحيوانات المتوحشة، وبمنطق ذهنية الجماعة التي تجرح سريعاً حين يخص الأمر وجودها وحقوقها أو نرجسيتها القومية، يندفع الناس للدخول في المظاهرات ومعارك الشوارع، لكن لن يكون هناك شخص عاقل أبداً، فالعقلاء ينفرون من كل ما يلغي الإرادة ويقود للغوغائية! لا يتحرك العقلاء بـ«سيكولوجية الجماهير»، كما يطلق عليها جوستاف لوبون في كتابه المعروف بالاسم نفسه، لأنهم في أكثر الظروف التباساً يظلون محتفظين بشخصياتهم الواعية، بحيث يصعب تزييف وعيهم أو توجيههم، بينما في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد، وتصبح شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، بحيث تلغى شخصية الفرد المستقل، ويصبح عبارة عن إنسان آلي يتحرك بقوة الهستيريا الجماعية كما يقول «لوبون». يعي العقلاء أنه حين تضج الجماهير بشكل مفاجئ وتبدأ في إصدار أحكام غير مدروسة وغير متزنة أو عشوائية نتيجة حدث ما (كما هي الحال مع قضية الجزيرتين المصريتين هذه الأيام)، فالخطاب المسيطر خطاب عاطفي بامتياز وذاهب…

المدن.. حكايات من حب وحذر

الخميس ١٤ أبريل ٢٠١٦

كثيرون كتبوا حول زياراتهم لمدن وبلاد مروا بها، وعواصم عشقوها وخطفت قلوبهم منذ الزيارة الأولى. وهناك ما يختلف من شخص إلى آخر، ويحلو لي أن أشاكس صديقتي التي تعشق باريس إلى درجة لا تصدق. أعرف أن هؤلاء الفرانكفونيين ينظرون إلى باريس باعتبارها مركز العالم، وإلى برج إيفل باعتباره الأيقونة التي لن تتكرر، حتى إن صديقتي تحرص في كل مرة تزور فيها باريس على السكن في الفندق نفسه، لسبب وحيد هو أن نوافذه الواسعة تطل مباشرة على البرج العتيد، ما يفتح الخيال والعين واسعين لتلقي ومضات أنواره التي ليست سوى شيء بسيط من أنوار باريس، مدينة النور والثقافة والمثقفين. في كل مرة نتحدث فيها عن باريس أذكرها بأنني لم أحب باريس حين زرتها ذات صيف لاهب، ولم أتمنّ تكرار زيارتها يوماً، باريس رائعة بلا شك كما يصفونها وأكثر، لكن للناس فيما يعشقون ولا يعشقون مذاهب! هناك حالة جديدة في العلاقة بالمدن، اكتشفتها أثناء زيارتي الخاطفة للعاصمة الأذرية ( باكو). إنها حالة العلاقة الحذرة بعض الشيء، ربما بسبب الاقتراب من ثقافة جديدة تماماً، لذا أجدني أسير في أزقتها دون أن ألامس جلدها، أمر بالمغنين الذين يعزفون على جيتاراتهم، ويغنون بحماس ظاهر فلا تتسرب الموسيقى إلى داخلي. أتناول الطعام فأتذكر طعاماً آخر، أسكن أفضل فنادقهم فتبدأ المقارنات! لم أشتر تلك التذكارات التي اعتدت…

ضجيج المدن الجميلة!

الإثنين ١١ أبريل ٢٠١٦

في الجمال، هناك جمال يضج بالحياة وجمال بارد باهت لا روح فيه، وكلاهما جمال؛ الفرق ليس في التفاصيل والملامح، ولكن في الأثر الذي يتركه هذا الجمال أو ذاك على نفوس وقلوب من يراه، والجمال لا يقتصر على البشر؛ فالله لم يخلق الإنسان جميلاً فقط، ولكنه خلقه في أحسن تقويم وأحسن صورة. ثم إن جمال الإنسان فاتن ومغرٍ، وقد يقود المتأمل الشديد التمعن إلى التعلق به وعشقه والوقوع في هواه، وصولاً إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فما الذي شغف زوجة عزيز مصر سوى جمال يوسف عليه السلام؟ إن من الجمال لفتنة، والفتنة في المدن كما في الإنسان، فهناك مدن تقع في هواها من النظرة الأولى، ومدن تمر بها فلا تلتفت إليها، الفرق في روح المكان وعذوبة التفاصيل! لقد غادر بنو الأحمر آخر ملوك العرب مدينتهم الجميلة غرناطة عام 1492، غادروا قصورهم وحدائقهم الغنّاء، غادروا أحياءهم تاركين مفاتيح دورهم وحوانيتهم معلقة هناك لحين عودتهم؛ فقد ظنوا أن الهزيمة التي مني بها بنو الأحمر ليست سوى أمر طارئ، وأنهم سرعان ما يعودون، لكن الزمن مضى قرناً بعد قرن، ولم يعد بنو الأحمر إلى إسبانيا، إلا أن الحمراء بقصورها وجنائنها ونوافيرها بقيت، منارة جمال تشع عبر ظلمات القرون لم تنطفئ يوماً. إن روح بني الأحمر التي سكنت تلك المدن لم تنطفئ، بقيت عذوبة…

الخادمات.. رحلة القهر والمعاناة!

الأحد ١٠ أبريل ٢٠١٦

في حياتنا إشكالية اجتماعية كبيرة، شكلت على الدوام حالة متناقضة من الاستياء والتعاطف معاً، من قبل الحكومة وكثير من العائلات الساعية لحل هذه الإشكالية بطريقة إنسانية، إلا أن هناك من يصر على سلوك أقل ما يقال عنه إنه لا يمت للنخوة والإنسانية بصلة، مرد الإشكالية في اختلاف الثقافات بين الأسر وخدم المنازل، وكذلك طريقة التفكير اللاعقلاني، فنحن نتساهل معهم أحياناً، ونكلفهم أكثر من طاقتهم أحياناً، ونترك لهم بيوتنا يتصرفون فيها كما يشاءون أحياناً ودون رقابة وتقنين، ثم نعاني ونشتكي مما يفعلون! تأتي عمالة المنازل إلى بيوتنا عبر مسارات وطرق طويلة، وعبر رحلة معاناة وإنهاك، وعبر صفقات ومساومات وعمليات ابتزاز لا تنكرها الخادمة عندما تصل إلى بيت مخدومها، فهي تتحدث عن رحلة العذاب وكم كلفتها هذه الرحلة، وكم باعت من ممتلكاتها وكم استدانت، وكيف دبرت أمر صغارها وأمها المريضة ووالدها المعوز، إن كثيرات منهن يأتين من قرى وأحياء فقيرة، يأتين معدمات، الجوع والفقر والحاجة والرغبة الجانحة في تجنيب أبنائهن وحش الفقر والجهل هو ما يدفعهن للمجيء، الأمر ليس سهلاً على الروح أن تحتمله، لكن الفقر لا يحتمل أيضاً، لذلك فليس سهلاً على إنسانية الإنسان ألا تتعاطف مع هؤلاء، مع إقرارنا بالمصائب التي ترتكبها الكثيرات منهن! الإشكالية أن هؤلاء قد شكلن ظاهرة جارحة في وجدان المجتمع برغم كل المعاناة التي نتحدث عنها،…

مزاج الكتابة!

السبت ٠٩ أبريل ٢٠١٦

يمكنني القول بعد كل هذه التجربة الطويلة - نسبياً - إن الكتابة التزام حقيقي ومكلف، لا يقيدك لكنه يصادر بعض حريتك في التعامل الاعتيادي او الفوضوي مع الظروف والضغوط، يجعلك أكثر ارتباطاً بغيرك، وأشد انتباهاً وحساسية، أتحدث هنا عن الكتابة اليومية، عن كتابة المقال الملتزم في صحيفة ذات خط ملتزم ورصين، وهنا فإن المشتتات التي يمكن أن تطرأ على الكاتب كما تطرأ على عموم البشر هي واحد من أعداء الكتابة التي على الكتاب أن يواجهوها بالانتصار عليها وليس بالاستسلام لها! الكتابة ليست قيداً، أفضل وصفها بالالتزام وليس القيد، الكتابة في حقيقة الأمر تحرر الكاتب وتطلق له العنان ليعبر عن نفسه وعن الآخرين، وتمنحه الكثير من اتساع الأفق كما تكسبه ارضية صلبة من العلاقات والتحركات بحثاً عن المعلومات والأخبار والأفكار، تمنحه الكتابة هوية واضحة وصلابة في إبداء الرأي والكثير من القبول الاجتماعي. كونك كاتباً ليس بالأمر الهين او العادي الذي يمكن أن يمر هكذا ببساطة، أن كونك كاتباً وإن كان لا يجعلك زعيماً أو نجماً كالمطربين ولاعبي كرة القدم، ولا يرسم فوق رأسك هالات القديسين كما تظهر في الرسوم القديمة، إلا أن وصف كاتب حين يتبع اسمك يجعل ذلك الاسم مثار انتباه او اهتمام بلا شك واحياناً محل غيرة أو توجس أو خوف وحذر، نعم قد لا يمر اسمك مرور الكرام…

لماذا اختفت بقراتُ جدتي؟

الخميس ٠٧ أبريل ٢٠١٦

انظر كيف تفعل بنا الأخبار المتعلقة بصحتنا؟ كيف تجعلنا نلهث بحثاً عن الصحة والعافية والرشاقة؟ وفي المقابل تأمل كيف تزداد أمراض السمنة عالمياً وبشكل كارثي؟ انظر كيف تتلاعب بنا شركات تصنيع الأدوية والأطعمة ومواد التجميل والأصباغ والأطعمة العضوية والمضادات: مضادات الاكتئاب، المضادات الحيوية؟ فما يكاد الواحد منا يصدق الكلام عن أهمية المواد العضوية ومخاطر الأغذية المعلبة، والتي تدخل فيها المواد الكيميائية حتى يفاجأ بما ينقض النظرية من أساسها، ومن دون مقدمات يفتح صحيفته صباحاً ليقرأ خبراً خلاصته أن الأشخاص المؤمنين بالأغذية العضوية أجسادهم مهددة بالتلف لنقص المواد الحيوية في طعامهم. أما أولئك الذين صدقوا سلامة وإنسانية الطعام النباتي وخلوه من الدهون الخطرة التي تهدد القلب والشرايين، فإنهم بلا شك فتحوا أعينهم دهشة وهم يقرؤون هذا الخبر «أيها النباتيون نظامكم الغذائي يسبب السرطان»! في خبر نشر منذ مدة يقول «لا يعتبر الشيب أو اللون الأبيض الذي يغزو شعرنا علامة سيئة، بل هو دليل على مرونة خلايا معينة في المخ تنتج هرمونات معينة تنعكس بشكل إيجابي على الذاكرة وغير ذلك»، بعد فترة من قراءة هذه المعلومة قرأت «أن الأطباء توصلوا لمعرفة الجين المسبب لشيب الشعر»! ربما للتدخل فيه جينياً ومنعه أو تأخيره سعياً وراء الشباب والجمال؟ فأين ذهبت الصحة والمرونة؟ ألا يبدو الأمر متضارباً، هل هي قصة سوق وترويج منتجات، أم هي…

في غرفة الكتابة

الثلاثاء ٠٥ أبريل ٢٠١٦

في واحد من أكثر الكتب طرافة «كيف تُكتب الرواية»، يكتب الروائي العظيم جارسيا ماركيز، «إن أكثر سؤال يوجه للروائيين هو كيف تكتب رواية، وفي الحقيقة فإننا جميعاً نمتلك الإجابة المرضية التي قد تقنع صاحب السؤال، لكن المشكلة ليست في إفشاء سر الكتابة وشرح طريقة صنع كعكة الرواية، ليس هناك خطوات أو وصفة جاهزة للرواية أبداً». لقد بحث ماركيز عن الحقيقة وليس عن الطريقة، ليقول لهم في النهاية إن الرواية تعاش ولا تكتب، بمعنى أنك يجب أن تعيش الحياة بكل تفاصيلها ودقائقها، بكل مسراتها وأوجاعها، تتغلغل في وجوه الناس، كل الناس ما استطعت، تتغلغل في وجدانهم دون اختيار أو انتقاء أو تعال، لتكتب في النهاية رواية الناس، رواية للناس، الرواية الواقعية الساحرة والمهيمنة على الوجدان، فالصدق صفة إنسانية متبادلة، يجب أن تكون حقيقياً لأصدقك. وكفى، ليس هناك ألغاز أبداً، الحياة في موازاة القص، العيش في تقاطعه الحار والمتدفق مع الرواية! كتبت منذ فترة عن الكتابة حين تكون فعل استشفاء، هذا لا يعني أن الكتابة لم تكن سجناً، أو لم تكن رصاصة وقيداً وسبباً للجنون، فالكتابة تشبه تلك الغرفة المطلة على كل الجهات، أطل نزار قباني من إحدى نوافذها فوصف فتنة النساء العابرات أسفل نافذته، بينما حين أطل منها الشاعر أحمد فؤاد نجم سمع وقع أقدام العساكر في طريقهم لاقتياده للمعتقل، وغير…

حين تكون إنساناً حقيقياً

الإثنين ٠٤ أبريل ٢٠١٦

من الأشياء التي تبهجني فعلاً مشاهدة السينما والحياة داخل الأفلام التي أشاهدها، سأقول لكم كيف يعيش الإنسان في الفيلم الذي يشاهده، يحدث ذلك حين تكون قماشة الفيلم مشغولة بحرفية قطعة دانتيل نادرة، بحرفية مخرجين عمالقة وممثلين أفذاذ وكتاب قصة وسيناريو أصحاب رؤية حقيقية، كتلك الأفلام التي مثلها وأخرجها كلينت إيستوود، وكأفلام أنتوتي هوبكنز وجوليا روبرتس وميريل استريب مثلاً! يعيش الإنسان داخل الفيلم، تماماً مثلما يحدث حين يقرأ رواية، فيكون البطل هو الراوي العليم والمطلع على كل الخفايا والأسرار، أنت تشاهد بعض الأفلام فتشعر بأن هذا البطل هو أنت أو هو صديقك أو تعرفه جيداً، وكأنك تجلس في عقله إلى درجة أنك تغضب إذا لم يفعل ما كنت تريده أن يفعل في اللقطة التالية، تشعر بأنك بديله، وبأن التصرف السليم أن يمسك بصديقه الخائن مثلاً ويلقي به في المنحدر ليلقى حتفه، وطبعاً لا يفعل البطل ما تريده ولكن ما يريده السيناريو والمخرج بالتأكيد. في فيلم «الحافة»، يتماهى العملاق أنتوني هوبكنز مع دوره كرجل حقيقي لن تصادفه سوى في أفلام السينما، تحكي القصة عن رجلين يعيشان مغامرة صعبة في محاولة للنجاة، كانا على حافة الموت إلا قليلاً، تحطمت مروحيتهما ليجدا نفسيهما في متاهات خطرة، فمن الغابات إلى الثلوج ومن الضياع إلى أنياب دب مفترس يشتم رائحة الدم من بعد أميال ليسبقهما إلى…

حديقة الأزهر.. حارسة الحياة والتاريخ

الأحد ٠٣ أبريل ٢٠١٦

بدت حديقة الأزهر وهي تتصدر غلاف العدد الأخير من مجلة «الناشيونال جيوغرافيك العربية» غاية في الروعة والجمال، لا يمكنك إلا أن تفرح لأن رئة خضراء نبتت بعد جهد جهيد في قلب القاهرة، لتخفف الضغط على مدينة مهددة بالاختناق جراء الزحام والتلوث وتكدس البشر وإهمال المرافق الخضراء التي تعد المنقذ الوحيد للمدن وللبشر خاصة في مدن الازدحام اللامعقول! تبدو «الجنينة» كما يسميها المصريون من علو شاهق كعين حقيقية حارسة، وكأحد حراس التاريخ النافذين الذين وجدوا ليشرفوا عليه من جميع جهاته، لا شيء من تاريخ القاهرة يخرج عن سيطرة الحديقة، فغرباً تطل القاهرة الفاطمية، تطل المساجد والأضرحة التي يحفها خط طويل من المآذن يشبه صوت الأذان الممتد طيلة نهارات القاهرة من تلك المساجد العتيقة، فيقف مسجد السلطان حسن وجامع محمد علي وقلعة صلاح الدين الأيوبي، فإذا التفت صوب الشمال لاحت لك مآذن الجامع الأزهر الشريف ومسجد الحسين، فيما يطوقها شرقاً شارع صلاح سالم كحد شرقي يفصلها عن منطقة السلطان أحمد الأثرية القديمة! سيتعب الذين يحاولون النيل من مصر، سيتعبون كثيراً رغم محاولاتهم المستميتة، فمصر لها قلوب تحبها بعدد قلوب أهلها وأكثر، لذلك فكر ذلك الرجل الملقب بـ(آغا خان الرابع) في العام 1984 في أن يهدي مصر التي يحبها هدية خاصة هي في أمس الحاجة إليها، بعد بحث ومؤتمرات ودراسات عمرانية ومعلومات صادمة،…

رحيل الأيقونة الزاهية

السبت ٠٢ أبريل ٢٠١٦

التقيت المعمارية العالمية زها حديد للمرة الأولى في دبي، قبل أكثر من عشر سنوات في المكتب التنفيذي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وبحضوره شخصياً، كانت، رحمها الله، مدعوة يومها لوضع تصاميم دار الأوبرا في دبي، التقيناها ضمن أعضاء مجلس دبي الثقافي الذي كان يرأسه في تلك الفترة الأخ الأديب محمد المر، أتذكر يومها إشارة الشيخ محمد بن راشد حين كنا نعرّفها على أنفسنا، إذ قال لها ممازحاً هؤلاء بنات الإمارات المثقفات، ابتسمت زها بهدوء وتمتمت بإنجليزية صرفة: تشرفت بهن. كانت سيدة شديدة الهدوء وقليلة الكلام ما لم تُسأَل، كانت تتحدث بدقة وتتصرف بثقة، فـ(زها حديد) ليست مصممة مبانٍ عادية، أو معمارية مشهورة وكفى، فالعالم يضج بكبار المهندسين والمعماريين في الشرق والغرب، لكن زها ابنة بغداد التي برزت وتفوقت على معماريي روما وفرنسا وبريطانيا، صنعت لنفسها مجداً لم يصنعه سوى أولئك الكبار الذين مجدوا أنفسهم بتلك الروائع التي مازالت شاهدة على حضارات أكثر من كونها دالَّة على أسماء ومجرد شخصيات، إنها معمارية كتبت مجدها على أراضي دول عظمى كثيرة في العالم، عبر صروح لا مثيل لها، أثارت الكثير من الانتقادات والجدل بين مدارس التصميم والمعمار بسبب أسلوبها الحداثي، حتى أسماها منتقدوها (مهندسة القرطاس) بمعنى أن تصميماتها خيالية أكثر مما يجب وغير قابلة للتنفيذ! حين نفذت أهم أعمالها في روما مدينة…

الهويات القاتلة!

الأحد ٢٧ مارس ٢٠١٦

الحكاية جديرة بالتأمل: حكاية الرجل المغربي وزوجته وابنتهما الصغيرة التي لطالما عانت الأمرين وهي تحث الخطى تهش على أغنام ترعاها، ملابسها مهلهلة ونعالها أكبر من قدميها، اذا تعبت اسندت انكسارها الى صخرة تتأمل المدى متسائلة (الى متى هذا الحال البائس، لماذا لا يكون لي لعب ومدرسة وحذاء كبقية الأطفال؟) ولا يطول تساؤل الطفلة، حيث يقرر والدها عبور المتوسط الى فرنسا مودعاً عالماً وباحثاً عن حياة افضل في عالم آخر، يكفل له ولعائلته حياة كريمة! كان عمر الطفلة (نجاة بلقاسم) 4 سنوات فقط حين سافرت لفرنسا، لكنها بعد 32 عاماً من ذلك التاريخ سينادى على اسمها لتؤدي القسم امام البرلمان الفرنسي باعتبارها وزيرة للتعليم العالي في الحكومة، نعم هذه واحد من اجيال كثيرة من المهاجرين العرب الذين وجدوا ضالتهم في اوروبا ووصلوا الى ما لم يصل اليه أبناء فرنسا أنفسهم. لقد تجاوزت أسرة (بلقاسم) أزمة الهويات القاتلة كما سماها الروائي «أمين معلوف» والنظرة الكارهة للآخر، هذا الآخر الذي فتح بوابات بلاده لهؤلاء القادمين من خلف البحار ومن خلف أسوار الأوهام: أوهام الثارات القديمة والقراءات الخاطئة للدين والعقيدة، القراءات المضللة والمنفصلة عن حركة الحياة والتاريخ وبناء الحضارات! اما في بلجيكا فعاش الشقيقان خالد وإبراهيم البكراوي، ونجم العشراوي الذين تسببوا في قتل العشرات في مطار بروكسل ومترو الأنفاق، وقبلهم فعل صلاح عبدالسلام وشقيقه…

الذين يكرهون الورود!

السبت ٢٦ مارس ٢٠١٦

أول مرة زرت فيها بلجيكا كان في صيف العام 2003، ثم تكررت زياراتي لها أكثر من مرة، سكنت في العاصمة بروكسل، وتنقلت بين مدن جميلة عدة وشديدة الألفة مثل «بروج» التي يشبهونها بفينيسيا لوجود القنوات المائية والتنقل عبر قوارب على طريقة قوارب الجندول التي تشتهر بها مدينة فينيسيا الإيطالية. تمنحك مدن بلجيكا متعة التنقل بين حوانيتها الصغيرة الممتلئة ببضائع غاية في الرهافة والجمال، وتحديداً صناعات الدانتيل البلجيكية فائقة الدقة والجمال إضافة للشيكولاته. الذين زاروا مدن بلجيكا لاشك ستبقى في ذاكرتهم بعض التفاصيل الفارقة، أولها الشيكولاته، الدانتيل، وموسم مشاهدة سجادة الزهور أمام قاعة المدينة وسط الساحة الرئيسية أيام الثالث والرابع والخامس عشر من شهر أغسطس، تلك السجادة التي رأيت شباباً وصبايا يرصونها بحرفية عالية مستخدمين ما لا يقل عن 700000 زهرة من كل الأنواع والألوان، إضافة لأعداد العرب المهولة هناك! تعرضت وعائلتي للسرقة من قبل هؤلاء، وللمضايقة اللفظية ولعروض في غاية الوقاحة كبيع المخدرات والسلاح مثلاً، أتذكر بروكسل اليوم والأيام التي قضيتها فيها وأصاب بالحزن الشديد لما تعرضت له، ما زلت احتفظ لها بالكثير من الحميمية، لتلك المنطقة القديمة من بروكسل. حيث الأزقة الضيقة، مصنع الشيكولاته، مطاعم بيع الباييلا، محلات بيع التذكارات، ومقاهي الأرصفة ومحطة الميترو المقابلة لفندق الهيلتون، وحي العرب، حيث تعرفت هناك على الشاي المغربي وشربته لأول مرة في…